مقالات

رواية الذاكرة – 6 موعد مع فكتور هيگو

#الشبكة_مباشر_بغداد_د. كاظم المقدادي

كنت في قراءاتي المبكرة مولعا بروائع جبران خليل جبران .. وما زلت احتفظ بأول كتاب له خارج نطاق الكتب المدرسية ، اهداه لي مدرس العربية في مدرسة المسعودي الابتدائية بالجعيفر .
وبمرور الوقت .. توسعت قراءاتي في المرحلة الجامعية .. فقرأت في الادب الروسي ، الحرب والسلام لتولستوي ، ولم استطع اتمامها لتعقيداتها ، لكني رجعت اليها ثانية ، بمشاهدة فلم طويل عرض بسينما النصر في بغداد ، بعدها .. توجهت لقراءة الروايات الايطالية المترجمة ومنها ( السأم ) لالبرتو مورافيا ، تم اخراجها بفلم للفرنسي غودار .. ثم مررت بالادب اليوناني والقصة العظيمة ( زوربا اليوناني ) لكاتبها نيكوس كازنتاكيس ، وظفتها السينما الى فلم لا يمل .. حتى انه شجعني لقراءة ما تيسر من كشوفات الفلاسفة الاغريق ، اقتحمت بها نعومة افكاري ، ولم تستهوني كثيرا ، على الرغم من اغراءات جمهورية افلاطون الفاضلة .

امتدت سوق الكتب و كبرت معي ومع النضج المعرفي المتدرج .. شرعت هذه المرة نحو الاداب الفرنسية ، على اثر علاقة جامعية مع زميلة لي ، تدرس الادب الفرنسي في قسم اللغات الاوربية بكلية الاداب .. وصرت اميل بشوق لقراءة روائع بلزاك وفلوبير وفكتور هيگو .. فقرأت رواية الاوهام الضائعة لبلزاك ، و مدام بوفاري لفلوبير ، والبؤساء لفيكتور هيگو ، والغريب لكامو ، وصباح الخير ايها الحزن لفرنسواز ساغان ،، وبعض اعمال سارتر .

والغريب .. اني وعندما قررت السفر الى باريس ، دحست امي في حقيبة السفر .. التمر والكليچة والليفة وصابونة الرگي ، وملابس الصوف خشية من برد باريس القارس .. اما انا فقد حملت معي كتابي ( الهدية ) الذي يروي قصة حياة جبران خليل جبران ، واخر ابتعته من شارع المتنبي ( تعلم اللغة الفرنسية بستة ايام ) والحقيقة ان عملية اتقان اللغة الفرنسية بشكل جيد .. تحتاج الى سنين وليس بستة ايام .

كنت افكر .. بصمت وحذر للهجرة الى فرنسا .. تلبية لطموح ورغبة جامحة بالسفر والتغيير ، كي لا اتحول الى موظف اجير ، يتذمر من روتين الوظائف الحكومية ويستعير .
وحصل في العام الدراسي الاخير فتح باب ( البدل النقدي) والاعفاء من الخدمة العسكرية .. ولم اطلب من عائلتي مبلغ البدل المطلوب ، كنت اروم السفر دون علمهم .. فاسرعت الى صديقي الاثير وسام جرجيس ، وكان زميلي بالابتدائية ، وجاري بمحلة العطيفية.. فاقترضت منه مبلغ ( ١٠٠ ) دينار ، قيمة البدل النقدي .
وبعد سنة التخرج سنة٧٣ / ١٩٧٤ حصلت على قبول مبدئي من جامعة السوربون على نفقتي الخاصة ، بتسهيلات القبول من المركز الثقافي الفرنسي في بغداد .. الذي كنت احضر نشاطاته الثقافية باستمرار .

وفي خريف باريس سنة ١٩٧٣ وجدت نفسي في مطار اورلي ، وليس لي عنوان صديق اهتدي اليه ، ولا مكان اصبو اليه ، وبدأ الزمان يتحرك لاختبار العزيمة ، وارادة التجربة ، وما عندي غير كتاب بائس ، لم يسعفني في النطق بلغة تنطلق من الحنجرة ، لكنها تمر بمختبرات ومعادلات صوتية وموسيقية عجيبة غريبة .. سلمت امري الى لغة الاشارة ، وضاعت مني كل انواع الشطارة .. ومع الايام جراحي تزيد ، والعزلة تنهيدة بتنهيد .

وهذا .. لم يمنعني بالتمتع بجمال عاصمة التنوير .
كنت اعدو في شوارع باريس وحيدا ، وانا في غاية الفرح والنشوة ، غير ملتفت الى الوراء .. بعد ان وجدت نفسي في حلم من احلام الف ليلة وليلة .. وانا اقترب من اجمل نساء الدنيا ، بعطرهن الذي يفوح بشوارع باريس ياله من ينبوع يتدفق منه العطر والجمال .. ويشد الرائي ببهاء التاريخ ، وصفاء الحضارة .
كان ورق تشرين ، يتساقط على رأسي ، معلنا ولادة فصل جديد من الحياة .. وسط تجربة باريسية مذهلة ، وبكل ما تحمله من مغامرة ، وحياة لم اعتدها من قبل .. هنا الثقافة تحيط بي من كل حدب وصوب ، والصور تؤسرني وتذهلني ، والجمال يلد الجمال.. والعقل يعانق الخيال .
كان شهر تشرين .. من اجمل الشهور في باريس ، له طقس معتدل ، والشتاء فيه غير مكتمل ، والفصول الاربعة للموسيقار الايطالي ( ڤيڤالدي) لم تشتمل .. والباريسيون يستمدون من خريف تشرين الطاقة استعدادا لاقامة اعياد الميلاد ، بشراء الهدايا ، واشجار الميلاد ، والمصابيح ، والزينة التي تكسو شارع الشانزليزيه .. وتجعل منه لؤلؤة فوق جبل ، و مكانا ومهرجانا ، وليلة للحب والقبل .. حيث تسمح الباريسية بتقبيلها علنا وفي الهواء الطلق .. قبلة واحدة تكفي لشحن الهمم العاطفية للذين افترقوا عن احبابهم من فرنسيين ومغتربين ، وسياح وعابري سبيل .
وبعناق عقارب الساعة .. يبدأ مهرجان العناق الحضاري والانساني حتى مطلع الفجر .. والاعلان عن نهاية عام ، وبدء عام جديد .
لم تكن معرفة هذه الاغراءات كافية.. لتمنحني الاستقرار النفسي .. فموضوع السكن كان يشغلني.. واجور الفندق بعد مرور ثلاثة اسابيع بدأت تقلقني .
شاءت الصدف.. ان اعثر في احدى الاعلانات عن وجود غرفة للايجار في شارع ( فكتور هيگو ) .. فاسرعت ووافقت على تاجيرها من دون معاينتها بعناية .. لموقعها الرائع ، ولرخص ايجارها ، على الرغم من انها تقع في الطابق السابع وبلا مصعد .

وجود سكن لي .. في شارع يرمز الى اديب فرنسي كبير ، يعني اي الكثير واشعرني ، وكأني على موعد مع اديب فرنسا العظيم الذي يعد اهم رموز الحقبة الرومانسية في فرنسا .. فهو الشاعر الكبير في اجمل دواوينه ( التأملات ، واسطورة العصور ) وهو الروائي العظيم في اروع رواياته الشهيرة ( البؤساء ، واحدب نوتردام ) وله الكثير من النتاجات الادبية التي تتسم بالرومانسية والمسؤولية الاجتماعية .

وامام هذه المنجزات المهمة ، عمدت بلدية باريس الى اقامة متحف سنة ١٩٠٢ لمقتنيات هيگو ، قرب ساحة ( بلاس دي فوج ) في الدائرة الرابعة .. نجد فيه صورا ومخطوطات قديمة تؤشر مساره الحياتي والفكري والادبي .. ومراسلاته وذكرياته مع المع ادباء المرحلة .. بلراك ولامارتين والاسكندر دوماس واخرين .
عدت مسرعا الى الفندق في الحي اللاتيني ، لألملم اغراضي وحاجاتي ، واحمل حقيبتي الى اقامتي الجديدة في شارع فيكتور هيگو .
اول المفاجآت الحلوة ، ان الغرفة البسيطة تطل على برج ايفل ، وقريبة جدا من شارع الشانزليزية ، وغابة البولون .
يعد شارع فكتور هيگو ، من اطول واهم الشوارع من ( الاثنى عشر شارعا ) التي تتفرع من ساحة النجمة .. تغير اسمها الى ( نجمة شارل ديغول) تكريما لمحرر فرنسا الحديثة .
في الساحة النجمة .. يتوسط قوس النصر ، الذي اراده نابلون بونابرت ان يكون بوابة للاحتفال بانتصارات امبراطوريته .. لكن القوس الذي يقترب من طراز الاقواس الرومانية .. لم يكتمل الا في عهد لويس فيليب سنة ١٨٣٦ .

دعونا .. نعود الى غرفتي الاثيرة .. فبعد ان تعلمت شيئا من اللغة الفرنسية ، صرت اتباهى بالحديث عن هذه الغرفة العجيبة ، المتميزة بموقعها ، واوصافها .. بينما كنت اخفي البوح بحكاية مصعدها ، وعدد طوابقها ..!

يا ترى.. من تلك الباريسية التي ستزورني في صومعتي الفكتورية العالية ، ومن هو القادر من اصدقائي العراقيين على صعود سبعة طوابق كاملة من دون مصعد ..؟
للتاريخ .. فقد صعد الى غرفتي سامي مهدي وجليل العطية ، و مالك الدليمي و ضياء نافع ، والشاعر كاظم جهاد الذي جاءني وهو يحمل ( گصگوصة) من الشاعر عبد الوهاب البياتي يقول فيها :
( هذا شاعر مجنون بالشعر .. ارجو تقديم المساعدة له ) وربما كان شاعرنا الكبير البياتي يعتقد ، اني اعيش في شقة باريسية فارهة.. مكث الشاعر المجنون ثلاثة ايام ثم غادرني الى صديق اخر.

مكثت في هذه الغرفة القريبة الى نفسي ، بحدود ست سنين كاملة .. ولم اغادرها على الرغم من تحسن وضعي المادي .. بقرار مني خشية وقوعي في غابة اللهو والعبث الباريسي .. ومعها يستحيل اتمام دراستي والحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه في جامعة السوربون التي جئت من اجلهما .
وبعد انتهاء الدراسة .. انتقلت الى شقة جميلة ، قريبة من شارع هيگو ( الدائرة السادسة عشر ) وفيها كل مستلزمات الراحة باثاث جديد ، وتجربة جديدة .. سارويها لكم في فصل لاحق من فصول ( رواية الذاكرة ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى