مقالات

خلاصة كتاب “الإنسان العاري – الدكتاتورية الخفية للرقمية”

#الشبكة_مباشر_مسقط

صدر الكتاب في نهاية مايو 2016 . وقد تزامن صدوره مع صدور كتاب آخر عنوانه ” أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، تحولات الأنا في العصر الافتراضي”، وهو من تأليف محللة نفسانية فرنسية تُدعى إلزا غودار(Elsa godart)، وقد صدر الكتابان في الشهر ذاته والسنة ذاتها وفي المدينة ذاتها، باريس. وكلاهما يشير إلى وجود خطر يهدد البشرية في مناطقها الأكثر أصالة: الذاكرة واللغة. فلم يعد الافتراضي لعبة عارضة في حياة الناس، بل تحول إلى وجود حقيقي له ” هوياته” و”أنواته” وضمائره ومساحاته وفضاؤه وزمانه.

يتناول الكتابان معا القضايا نفسها، أي كل ما يتعلق بالآثار الكارثية التي خلفتها الثورة الرقمية على الشرط الإنساني، ما يعود إلى علاقة الفرد بالزمان وبالمكان، وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين، بل امتد تأثيرها ليشمل مجمل الأنوات التي بها يحيا الفرد، وهي ما يشكل “هوياته” الموزعة على فضاءات لا يلعب فيها الواقعي سوى دور بسيط، وعادة ما يكون مجرد ممر نحو عالم افتراضي لا حد لامتداداته. فعوض أن يبحث الناس في الحياة الحقيقية عن أصدقاء حقيقيين، راحوا يلهثون في الشبكات الاجتماعية وراء “صداقات” وهمية خالية من أي دفء إنساني. وهذا دليل آخر على أن الفضاء الحميمي يجنح الآن إلى الاختفاء، ” فالحياة الخاصة أصبحت شذوذا”، كما يؤكد ذلك صاحبا الكتاب.

لقد جاءت هذه الثورة بالخير العميم حقا؛ فقد كسب الإنسان بفضلها أشياء كثيرة: في المعلومة ومعالجتها وتداولها وفي الصحة وطول العمر والأمن والسرعة، ولكنه خسر كل شيء أيضا، الحميمية والحياة الخاصة والحرية والحس النقدي. لقد رُدت “هويته”، بكل غناها إلى دائرة الاستهلاك وحده؛ اختفى المواطن، كما اختفى التنافس السياسي وتعدد البرامج وتنوعها، لكي يُعوض كل ذلك بآلية ضبط سياسي صارم يتحكم في الرأي العام ويوجهه، وذاك ما تقوم به الشبكات الاجتماعية بشكل “ناعم” و”طوعي”، حيث يضع الناس فيها حريتهم عند أقدام فاعلين رقميين يعرفون عنهم ما لا يعرفونه عن أنفسهم.

إنها مفارقة غريبة، فلم تقُد هذه الثورة بإنجازاتها الكثيرة، كما كان مؤملا، إلى تجدد الإنسانية وتطورها، وإلى بلورة المزيد من القيم التي تحتفي بروح الأخوة والصداقة والكرامة، بل أعلنت عن ميلاد “فرد فائق”(hyper individu) يتحرك ضد نفسه وضد المجموع ضمن ممكنات ” واقع فائق” ( hyper realité).

إنه إنسان “مزيد” بالافتراضي والبدائل الاصطناعية، ولكنه مُفرغ من الداخل. لقد اختفى الحلم والمتخيل والفعل الاستعاري عنده لتحل محله “الرغبة” و”الاتصال الدائم”، كل ما يتحقق في “اللحظة “، كما يمكن أن تُعاش في زمنية تنتشر في “فضاء أفقي” مصدره كل الشاشات: التلفاز والحاسوب واللوحات والهواتف المحمولة.

لا يتعلق الأمر بتمثيل مزيف للواقع، كما كانت تفعل ذلك الإيديولوجيا قديما، بل هو الإيهام الدائم “بأن الواقعي ليس هو الواقعي”، كما يقول جان بودريار؛ فعالم الحياة الفعلية لا يُدرك إلا من خلال مضاف افتراضي يُعمق غربة الفرد عن نفسه وعن واقعه، ويستدرجه إلى وحدة ” ينتشي” بها وسط الجموع. إن الواقعي ناقص، وتلك طبيعته، كما هو الإنسان ناقص أيضا، وتلك عظمته وذاك مصدر قوته. ولكن النقصان في الحالتين معا لا يمكن أن يعوض بالافتراضي، بل يجب أن يتجسد في فعل إنساني واقعي يسعى فيه الإنسان إلى التغطية على جوانب النقص في وجوده، وذاك كان مسعاه منذ أن استقام عوده وانفصل عن محيط صامت ليخلق تاريخه الخاص.

لقد امتد سلطان الافتراضية في عصر الرقمية لكي يشمل كل شيء. فهي الثابت في وجودنا. فنحن لا نكف عن اللعب بهواتفنا أو لوحاتنا، إننا لا نحس بالآخرين حولنا، بل نبحث عن سلوان ومواساة وفرحة ونشوة، أو حالات استيهام، في ما تقوله الصورة في أجهزتنا. بل إن الطفل ذاته لم يعد يتعرف على محيط بِكْر تبنيه حقائق ناطقة في وجوده المادي، فحقائق هذا الوجود وتفاصيله تأتيه اليوم بواسطة الصورة أولا، وبعد ذلك تلتقط عيناه أشياء تكون صورتها في وجدانه نسخة سابقة بُنيت في الآلة بفضل تعديلات ومضافات وتحسينات فوتوشوب، واستنادا إلى مسبقات المصوِّر ومواقفه أيضا.
لذلك لا يتردد الكاتبان في تشبيه كائنات الرقمية بعبيد أفلاطون. لقد وُضع هؤلاء في كهف مظلم تحت رحمة حراس يمنعونهم من الخروج ومن تصور عالم آخر غير عالم الكهف، وبذلك حُرموا من الشمس والحقيقة ودفء الحياة، لقد كانت ظلال أجسامهم وحدها تتحرك أمامهم وتوهمهم بأنها الحقيقة ولا شيء غيرها.

إن الحراس في ” استعارة الكهف” هاته هم أيضا “خالقو الوهم” وموزعوه في عصر الرقمية المنفلت من عقاله. فوابل الصور التي تنهال على الإنسان الرقمي تمنعه من رؤية الأشياء، كما هي في أحضان الطبيعة، لقد تحول البصري شيئا فشيئا إلى بديل كلي عن الواقع.
لقد نسي الناس ما يُصنف خارج الصورة، فالحقيقة فيها وحدها…

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى