قصة نكهة الحب الأول
#الشبكة_مباشر_إستكهولم_د. سناء صاحب الخزرجي
كانت ما تزال منهمكة في لوحتها التي لم تكتمل بعد، عندما طرق باب المرسم شاب وسيم يسأل عنها. فتاة في ربيعها الثاني والعشرون ممشوقة القوام، خصلات شعرها الشقراء تنساب بفوضوية على أحد كتفيها وأناملها الرقيقة تغطيها الألوان، ولأنها كعادتها عندما ترسم لا تسمع أي صوت غير أنغام الموسيقى ورائحة الألوان المنبعثة من قماشة اللوحات الرطبة التي لم تجف بعد. فلم تنتبه حتى تكلم معها أستاذ المرسم!
خرجت لترى من يسأل عنها فوجدت هذا الشاب يصطحب معه قريبها الكفيف فرحان، الذي أمسكت بمعصمه ليدخل معها إلى المرسم. ماكان ليحدث شيئاً لولا انه دعاها لموعد قريب من أجل فرحان، كان يريد أن يساعده قبل أن يرحل إلى بلده بعد يومين كما قال.
وفي اليوم التالي كان اللقاء في مقهى قريب من الجامعة، وبدء حديثهما الذي استمر لساعات دون أن يشعرا بمرور الوقت. ثم طلب أن يراها في اليوم التالي فوافقت وفاء على الفور دون تردد وهي مستغربة، فهذه أول مرة تقبل بموعد دون تفكير أو حتى سؤال عن سبب اللقاء الثاني.
خرجت من المقهى ومشاعر جديدة تنتابها لأول مرة، وأصبحت لا يشغلها غير تلكما العينان السوداوين وقد اختصرا مرارة الغربة القديمة في نفسها. أخذها بريقهما بعيداً عن زحام الطرقات وتحرّشات العابرين، لم تنتبه لهم فقد كانت تفكر فيه فقط وابتسامة خفيفة تعلو وجهها. طالما أخبرتها أمها بأنها ستدهس يوما بسيارة مارّة أو ربما تقع في حفرة أن استمرت هكذا شاردة الذهن بينما تسير.
وبينما كانت سيارة بيضاء تلاحقها وتسير ببطء مع خطواتها فوجئت به يركض نحوها، بينما انطلق أصحاب السيارة الصغيرة هاربين بمجرد رؤيته قادماً نحوها. كان هو فشعرت بدقات قلبها الذي خفق لأول مرّة وبقيت صامتة تنظر إليه. وفجأة عبثت برأسها أفكار غريبة فقلبها الفارغ إلا من هموم الحياة قد لا يحتمل حزناً آخر، ولكنها الآن سعيدة وأي شيء آخر لا يهم. مجازفة ستقدم عليها لأنها في أمس الحاجة لحب لم تَخبُره من قبل ودقات قلبها التي تأخرت كثيرا حتى سمعتها وشعرت بها أخيراً.
رافقها إلى محطة الباص ولم يذهب بعيداً حتى تأكد أنها غادرت بأمان. مرّ الوقت بطيئا حتى جاء الصباح وكطفلة صغيرة تخترق حاجز المراهقة بلا صبر، وجدته في المقهى بانتظارها. ولا كلمات تصف تلك اللهفة التي استمرت حتى بعد اللقاء.
بادر قائلاً: ماكنت أظن أنني سأفكّر يوماً بفتاة تصبغ شعرها وتُظهر ساقيها، ولكنك مهذّبة يا وفاء وعفوية. لم تجب بشيء وتركته يكمل……..
: أُحِبُكِ!
وبعد أيام……….
حان وقت الوداع! فقد أجّل عودته لبلده أسبوع بأكمله من أجلها. غريبة تلك الصدفة التي جمعتهما ومحيّرة أيضا، كان قد أنهى دراسته في الجامعة على أمل أن يكمل دراساته العليا في بلده، ولكنه وعدها أن يكلمها عندما يصل البيت.
كان طريقه شاقّاً والساعات بين بغداد وعمّان طويلة، لم تغب عن باله أبداً وفاء، وتذكر قصته مع قريبته التي كانت تلاحقه بمكر شديد مع أنه محرّم عليها. وكيف استغلت طيبته وخبراته القليلة لتجذبه إليها. أيقن حينها أنه أحب وفاء ولأول مرة يستغرقه إحساس العاشقين، أليست هي من أقنعته بأن يترك المرأة الأخرى. وحدثته نفسه: كيف أخبرتها قصتي؟! بل كيف بحت لها بأسراري؟! تلك الفتاة غزت عقلي وقلبي معاً. ثم صحا بعد ذلك من غفوة قلقة على أصوات المسافرين ووقع أقدامهم بينما يغادرون الباص.
وقف في شرفة بيته يتذكر كلماتها الأخيرة…
: ربما تنساني عندما تعود، ستنشغل بأهلك واصدقائك.
دخل مسرعاً ليتصل بها من هاتفه الأرضي: حبيبتي وصلت قبل قليل وها أنا أتذكرك.. ثم ارتبكت كلماته خجلاً من وجود والديه بالقرب منه.
سألت والدته باستغراب: من هذه الفتاة ياجلال… متى عرفتها؟ وكيف؟!
وبعد ذلك تنفّست الصعداء عندما وعدها بأنه لن يقابل تلك المرأة قريبتهم مرة أخرى. شعرت بأنها تدين بالفضل لتلك الفتاة الغريبة!
وضعت يدها على كتفه قائلة: كيف استطاعت هذه البغدادية أن تؤثّر فيك وتُقنعك؟ فتاة ذكية وقوية!
: وجميلة يا أُمي!
لم تكن أمه تعرف وفاء، هي حكمت عليها فقط من زاوية وحيدة بعيدة عن كل البعد عن أحاديث القلوب.
اقترب الإمتحان الأخير ولم تكن وفاء خائفة فالقراءة متعتها كما ان الدراسة هاجس قديم ظل يرافقها حتى تحقق، ولكنها الآن أصبحت تخشى هاجسها الجديد.
: أخشى أن تطول غيبته والرسائل التي لاتطرد الشوق إلا قليلاً تأخرت هي الأخرى.
آااااه تبدو بغداد قاحلة طالما أن القلب هو من يبصر الألوان وليس العينان، هكذا تأملت. قلبها أصبح مشغولاً به ولكنّ عقلها لا زال يستعد للإمتحان، كان دخوله في حياتها قد وهبها حافزاً للإستمرار.
إنشغل الجميع بالحديث عن الامتحان وكيف كان، والطلاب كانوا لايتوقفون أبداً عن الإمتعاض من الإسئلة والشكوى من مراقبة الأساتذة المستمرة، بالنسبة لها انتهى الأمر. انزوت وفاء في مكان ما ترشف قهوتها بينما عيناها تراقب الآخرين دون اهتمام. حدثتها نفسها: كل شيء يذكرني بك، مرت شهور عديدة… فصل كامل… لماذا تأخرت؟!
تسمّرت عيناها على خطوات تقترب منها…. بادرها
: اشتقت إليكِ وفاء!
: أنا أكثر!
ومرّت الأيام وكأنها لحظات لتودّعه مرّة أخرى. وها هو الفصل الدراسي الثاني على الأبواب، ولكنه بطيئاً جداً في الرحيل كأنه ضيف ثقيل. كانت هذه بداية عادة سيئة سترافقها في رحلة حياتها القادمة وفي سنوات عمرها القادمة، اعتياد الإنتظار وترقّب العمر بينما يمضي في تحقيق إنجازات عديدة لن تجعلها سعيدة أبداً.
وفاء كانت تعيش اللحظة وتمارس لعبة الإختفاء المريرة عن ذاتها لأنها لم تشعر يوماً بالانتماء لهذه الدنيا. وذكرياتها كانت حزينة، تكتمها كما تكتم حقيقة أناها الضعيفة وحرمانها العاطفي، فقد عاشت طفولة يتيمة أو هكذا لقنتها جدّتها مراراً. وقد كانت كصديقة لها وطالما حفزتها لكي تنجح في مستقبلها الدراسي لكي تعوّض حرمانها.
كانت رسائل جلال تُطمئِنها قليلاً ولكن آخر مرّة كلمها كان في صوته خطب ما، واستوقفتها عبارة صدرت منه تبدو غريبة إذ قال: عندما أراكِ سأكلمك في موضوع مهم. وقتها أخذ الحديث وجهة أخرى ولم تسأله، كانت تقاوم حدس ينبؤها بخذلان قريب وبحزن ربما يطول. ولكنها كعادتها تتشبث بخيوط تتشابك فيها الآمال مع الوهم.
بدت خطواته بطيئة ومتثاقلة هذه المرة….. أخبرها فيما بعد بأنها الزيارة الأخيرة وبعدها سيهاجر بعيداً.
: لا أظنك تعني ماقلته الآن… لا شك أنك تمازحني!!!…..
: لستُ أمزح حبيبتي، ولكنني في موقف صعب فوالدي الذي يعتمد علي في بناء مستقبل إخوتي الصغار. وضعني في زاوية حرجة علي أن أسافر إلى قارة بعيدة.
: كيف تجرؤ على اتخاذ هكذا قرار من غير أن تُشركني معك أو تفكّر بي؟! وكيف نتخذ قرار علاقتنا معاً ثم تُنهيها وحدك! أي أنانية منك هذه… ظننتك مختلفاً.
: صدقيني يا وفاء فأنا لم أخدعك في مشاعري أبداً بدليل انني جئت إليك رغم مشقة الطريق لأخبرك، بينما كنت أستطيع أن أفعل في اتصال على الهاتف أو برسالة.
ولكن يبدو إن خلاف المحبين لا يدوم طويلاً فقد سامحته سريعاً وذهبا إلى متنزه قريب. بدا ذلك ممتعاً رغم حرارة الجو فجلسا طويلاً في كافتريا يتبادلان الأحاديث. تناست وفاء كل شيء ظنّاً منها أنها تستطيع إقناعه بالعدول عن قراره بالرحيل، أو ربما سيأخذها معه وأن قراره الاخير ليس نهاية العلاقة بينهما فلا تزال لديهما خيارات أخرى، هكذا اعتقدت.
: لاتسافر، سأحصل على شهادتي وأعمل معك وسوف نعيش في مستوى يناسبنا على أية حال.
: أنا لا أفكر في نفسي ولا أستطيع أن أخذل والدي….
: وتخذلني أنا!……
لم يعد الحوار يجدي نفعا، حدثتها نفسها: هل علي أن أدفع ثمن اخطاء غيري وأنانيتهم في كلِّ مرّة.
: وفاء! هل سأراك غدا؟
: لماذا؟ لتودعني؟!
: ……….
: لا أعلم، وداعاً جلال……
طبع قبلته على شفتيها العذراوين، كانت أول قبلة منه والأخيرة….. وهذا القدر الذي يسخر منها فكل القبلات تبدأ معها حكاية جديدة إلا هذه القبلة فق كانت نهاية لقصة حزينة. كانت تعلم بأن هذه القبلة اليتيمة ستزيد قصتها القصيرة معه مرارة كلما باغتها الحنين أو اضطرمت في نفسها الذكريات.
: وفاء! سأفاجئكِ يوماً بسؤالي وأطرق بابك ولكن إن وجدتك مرتبطة فلن ألومك أبداً، لا أريدك أن تخسري سنوات عمرك بانتظاري.
كان وداعهما هادئاً دون عتاب، ثم سارت في طريقها دون أن تلتفت إليه بينما لاحقتها نظراته حتى استقلت التاكس… تماماً كأول لقاء. كان يسير متباطئاً وكأنه يسير على قلبها، وكأنها تعُدّ خطواته.
عجباً! يُخيَّلُ إليّها أنها تهمس له قائلة: رفقاً بقلبي الذي تحطمه بلا اهتمام فسعادته كانت من زجاج. ويخيل إليها أنه غاب وتلاشى بين أشباح المارّة فلم تعد تراه. توقف حينها الوقت وبدت البيوت والاشجار صوراً هاربة وكذلك الناس بينما تنظر من النافذة بعينين غارقتين ورؤية ضبابية. وكلمات تتقافز إلى وعيها قائلة: لن يعود.. لقد مضى بعيداً حيث تنام الأحلام وتصحو الذكريات…
ستمضي عشرون عاماً حافلة بالأحداث فق مضى كل منهما في طريقه. أحيانا تراودها الذكريات القديمة كلما مرّت على الأماكن التي جمعهما فيها لقاء. وتذكّرت عندما جائتها بعد سنتين رسالة منه يسأل فيها إن كان ما يزال في وسعهما الإرتباط. ولكن اللهفة نحوه لم تكن موجودة، والقلب غلفه صقيع موجع فلم تجب على رسالته بل تجاهلتها تماما مع أنه حب عُمرها .. ربما الوحيد، لم تفكر في أسباب جفائها… الإنتقام منه أم من نفسها؟
عشرون عاماً مرّت تغيّرت فيها وفاء كثيراً، لم يكن في ظنّها أنها ستُهاجر أيضاً بعده ولكن إلى أرض أخرى ما تزال أبعد من تلك القارة التي سرقت حبيبها أم سعادتها وهل يفرق الأمر كثيرا؟!
وفي ليلة باردة قررت أن تبحث عنه في وسائل التواصل علّها تجده، ورغبة شديدة جعلتها تريد أن تسأله إن كان حقق حلمه في الحصول على الشهادة والجنسية الغريبة التي فضلهما عليها. ترى هل كان له ما أراد؟ هل تزوج وأصبح لديه أولاد؟! لم يتعبها البحث طويلاً. وقد كانت المفاجأة عندما قرأت نعيه في خبر قصير…. ليلتها كانت السماء بلا قمر والثلوج وما تزال تتساقط بغزارة.
قصة بقلم: د. سناء صاحب الخزرجي
3-1-2022