الاستحمار بين المصطلح والمفهوم
د. سهام السامرائي
يدل مصطلح الاستحمار في عالم السياسة الدولية على الاستغباء الممنهج للشعوب الجاهلة أو المتجاهلة من قبل قوى الاستعمار أو النظم الحاكمة الطاغية الفاسدة من أجل تشتيت أفكار شعوبها وتضليلها و استغفالها وشل عقولها وإشغالها وإلهائها عن قضاياها الحقيقية من المطالبة بحقوقها في ثروات البلد و تطبيق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وسيادة القانون والمساواة بين الحاكم والمحكوم و المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية …الخ .و الاستحمار هنا لا علاقة له بالحمار بعده دابة ، وإنَّما الاستحمار في هذا السياق هو وصف المستحمَر( اسم المفعول ) بالجهل والاستغباء والاستغفال والبلادة . و مصطلح الاستحمار وفق علي شريعتي ورد بهذا المعنى في القرآن الكريم عن فقهاء الأحبار (( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا )) لأنهم لم يحملوا الأمانة كمسؤولية تصدوا لها في تناقض أقوالهم مع أعمالهم . إذن يعني الاستحمار إبدال الوعي والإدراك والفهم والسير خلف السراب والمجهول والرضوخ والاستسلام الأعمى دون أن يعي أنه أوقف عقله عن التفكير .
وظاهرة الاستحمار ليست جديدة بل هي قديمة قدم الأزل وإن كان أشهر منظريها سحرة فرعون في العصر القديم .
يقول المفكر الإيراني علي شريعتي: (( عندما يشب حريق في بيت ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرّع إلى الله ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق والانصراف عنه إلى عمل آخر هو الاستحمار وإن كان مقدسًا )) ، ويقول :(( إنّ الاستحمار شكلان : مباشرٌ وغير مباشرٍ . فالمباشر منه ، عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة ، أو سوقها إلى الضلال والانحراف . أما غير المباشر ، فهو عبارة عن الهاء الأذهان بالحقوق الجزئية ، البسيطة اللافورية ،لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسيّة والحياتيّة الكبيرة والفورية )) .
من أدوات الاستحمار التي توظفها الدول الفاسدة لإلهاء شعوبها وتغييبها وتضليلها وتعطيل وعيها عن فسادها خوفًا من المحاسبة والمطالبة بالحقوق استغلال المقدس مثل ( الدين ) كإشغال الناس باختلاف المذاهب الفقهيّة ما بين أبناء الشعب الواحد بإفراغ القيم الدينيّة والأخلاقيّة من محتواها الاجتماعي كي تبقى مجرد عناوين غيبيّة فارغة من مضمونها الحقيقي، وإشغال الناس بتلك الاختلافات لشق وحدة الصف ما بين أبناء الوطن الواحد (( إذا أردت أن تخرب أي ثورة فقط إعطها بُعدًا طائفيًا أو دينيًا وستنتهي إلى هباء)) .
ومن أدوات الاستحمار الدراما بأنواعها ( المسرحيّة ، والدراما التلفزيونيّة و الدراما السينمائيّة والدراما الإذاعيّة )؛ بإسقاطاتها رسائل مبتذلة لضرب كيان المجتمعات وسعيها للخروج عن السياق المجتمعي وقيمه باستعمال الدراما سلبًا على القيم الاجتماعيّة والأخلاقيّة النبيلة والتركيز على الإثارة والتشويق والإغراء لدغدغة مشاعر الفرد وغرائزه الشهوانيّة واللّهث وراء ملذات الحياة .
ومن أدوات الاستحمار تقديم بعض البرامج التلفزيونيّة الهزيلة الهشّة الخالية من أي محتوى ثقافي أو قيمي والبعيدة كل البعد عن المضامين والأهداف الإيجابيّة من أجل تغذية عقل المتلقي اللّاوعي تجاه ما يبثونه في برامجهم تحت عناوين جاذبة. يقول المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي عن خطورة انتشار ثقافة الرداءة بين المجتمعات:(( جعل الرداءة تعم حتى تصبح عادية ثم مستساغة ثم مطلوبة )) .
ومن أدوات الاستحمار وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت تخترق مجالات الحياة جميعها في عصر تطور تكنولوجيا المعلومات عصر اللّغة الرقمية والانفجار المعرفي، إذ يشكل (( إعلام العولمة الذي لا يلتزم بالحدود الوطنيّة للدول ، وإنما يطرح حدودًا افتراضّية غير مرئيّة ترسمها شبكات اتصاليّة معلوماتيّة على أسس سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة وفكريّة ، لتقديم عالم من دون دولة ومن دون أمة ومن دون وطن )) . ففي الوقت الذي يفترض أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي نافذةً وميدانًا للتواصل الثقافي والاجتماعي بين الأفراد من خلال حضور ثقافة الحوار و ممارسة النقاش البنّاء ، والاستئناس بالرّأي الآخر المخالف ومصنعًا لإنتاج الأفكار وتداولها وتوجيهها توجيهًا يخدم القيم المجتمعية للأمة ، وممارسة الإبداع في أقصى حدوده، فضاءً لتبادل الحوارات المثمرة والآراء الهادفة والأفكار البناءة أي أنها ربما تشكل أبرز أدوات التأثير في صناعة القرار والتأثير على الرأي العام وتشكيله وتنشئة الشباب وتثقيفه سياسيًا وعقائديًا وأخلاقيًا أي أنها يمكن أن تقود حركة التغيير في المجتمعات للمطالبة بحقوقها التي تكفل إنسانيتها ، كالحرية والاستقلال وعرض النقاشات العلمية والأدبية والثقافية والسياسية ، أي تكون وظيفتها تثقيف العامة و تغيير العديد من القرارات التي تهم مختلف المجتمعات نجدها غيبت الثقافة الحقيقية و فرضت ثقافة التقليد الأعمى دون أي وعي أو تعقل وتفكر ودعمت الكثير من السلوكيات السيئة وشكلت خطورةً كبيرةً على الشباب وعملت بهمةٍ ونشاطٍ عاليين على إفساد الذوق العام واللّسان واستلاب الهويّة الثقافيّة ونشر الأفكار الهدامة وإلغاء ثقافة الآخر ونبذه وتأجيج مشاعر العنف والكراهية والتعصب وإثارة الفوضى والاضطراب والتناحر الطائفي و هدم النسيج الاجتماعي والانحلال الأخلاقي مما أدى إلى تصدع الكثير من القيم وبروز العديد من القيم المضادة وهو مؤشر على انهيار المنظومة القيمية للمجتمع وأسهمت في تسطيح العقل الجمعي للناس عموما و للشباب تحديدًا وتهميش تفكيرهم وتغييبه من خلال تغذيتها بأشياء براقة زائفة ، ليزداد تدني المستوى العلمي و الثقافي وينحسر عن المطالبة بحقوقه .
وهنا تقع على عاتق النخب الواعية و المثقّفة والمسؤولة على التوجيه الثقافي والفكري والتربوي في وقتنا الحاضر وخصوصًا المؤسسات التعليميّة والتربويّة والصحافة والإعلام مسؤوليّة وطنيّة و أخلاقيّة وأدبيّة ودينيّة وإنسانيّة وحضاريّة في غرس القيم الاجتماعيّة و بناء ثقافة مجتمعيّة ذات طابعٍ ومضمونٍ حضاري ووطني لتحرير المجتمع و الشباب من قيود التخلف والجهل وتنمية وعيهم في تغيير العقليّة السائدة ، وتفكيك البنى العشائريّة والقبليّة القديمة ، والانخراط في النضال الاجتماعي لخلق حراك ثوري للنهوض بالمجتمع وإيقاظ ضميره وعقله من السكون والجمود والسبات لمواجهة تحديات العصر، وفضح المتاجرين بالدين والمتربّحين بالسياسة ، والمتشبثين بالسلطة ، وتغذية الناس بالوعي الذاتي وهذا ما سماه علي شريعتي بالنباهة الذاتية ومن أهم ثمارها كما يرى (( تيقظ الفرد وانتباهه وشعوره بذاته ومعرفتها معرفة تامة وأنه خليفة الله في الأرض ، وقد بين أن هذه المعرفة والوعي والنباهة تفوق وتتجاوز العلم والفلسفة والفن والصنعة ، فالإنسان مهما علا وارتقى وتدرج في هذه العلوم دون نباهة فلن يصل إلى صيرورته الذاتية ، لأن النباهة يقع مكانها في فكر وشعور الفرد لا في العلم والفلسفة ، وتأتي هذه النباهة بالضبط من فكر وإيمان وعقيدة الفرد ))
هذه النباهة هي التي جعلت رعية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عصية على الاستحمار كما يقول علي شريعتي في كتابه ( النباهة والاستحمار ) (( … وحينما رأوا الخليفة عمر ، ذلك الإمبراطور الذي فتح لهم مصر وإيران وبلاد الروم ، يرتدي ثوبًا ، من الغنائم الحربية ، وهو أطول من أثوابهم بقليل ، علت أصواتهم بالمعارضة ، وتقسيم الغنائم بالمساواة ، لقد صاحوا : لأي شيء ثوبك أطول من ثيابنا ؟ وهم لا فرق عندهم بين عمر ، أميرِهم ، إمبراطور الشرق والغرب ، وبين جندي من الجنود . لقد أجبروه على المحاكمة لأول مرة ، وبدلاً من الثناء عليه ، وإجلاله لفتح إيران والروم ، طالبوه بالعدالة ! أنظر إلى شعور تلك الأمة ، وإلى اهتمامهم والتزامهم بمصيرهم ، وهم يستطيعون أن يرفعوا إيران المتحضرة في العهد الساساني بأطراف أصابعهم ، ويلقون بها أينما شاؤوا ، وفعلًا قلعوها ، ولا يعلم أين ذهبت ! ولهذا كانوا قادرين على فتح بلاد الروم كلها ، ولقد استطاعوا فتح مصر ، وإخضاعها بثلاثة لآلاف رجل ))
ولا شك أن هذه الرواية عن الخليفة عمر بن الخطاب قد أصابها نوعًا من التهجين والتشوه إذا كان من حيث الروايات ولكن المعنى العام يشير إلى الشفافية والعدالة التي يتمتع بها عصر الخليفة عمر بن الخطاب من حيث تفعيله لحرية الرأي وتحمل المسؤولية الأخلاقية تجاه الرعيّة وتبنيه سياسة الباب المفتوح.