طلب مني زميلي وصديقي الاثير د صباح ناهي لمهمة استطلاعه .. الكتابة عن الصورة النمطية ، والصورة الذهنية للمجتمع العراقي ومؤشرات تحولاته وتطور انساقه .
كان علي ان استحضر الكتب والنظريات ، من نشر عن التاريخ الاجتماعي ولمحاته ، وانعطافاته وتطوراته ، وعن المظاهر والظواهر ، التي اجتاحته رغما عنه من سكون وجمود ، وارتجاجات وانقلابات ، وحروب ومجازر ، وهو يتخبط في محنة البحث عن الهوية ، وسط ازمات سياسية ومجتمعية قوية ، وتحولات
جذرية .. من نظام ملكي الى جمهوري ، ومن مجتمع متمدن الى اخر متدين ، ومن سياسي مؤدلج ، الى انتهازي متلون ، ومن مطبات التقية الدينية ، الى تموجاته المدنية .
الثابت .. ان المجتمع العراقي ، لا يزال في مرآة الصورة النمطية التي تناقلها بفعل موروثاته الدينية والعقائدية ، وما صاحبها من طلاسم وطقوس وحكايات اسطورية ، يدفعها الجهل المقدس نحو غايات غرائبية ، حتى اتسمت بالتحجر ، واكتسبت حالات من التندر ، في حين استمرت الصورة الذهنية متذبذبة ،
متأرجحة ، تراوح زمانها ومكانها .
في فلسفة الصورة والمادة ، اشار ارسطو الى وجود ثيمة اساسية تؤشر عنصرين مهمين هما : الخيال والادراك .. وكأنه كان يشير الى ضرورة التفريق بين نمطين في صورة واحدة ، وتثبيت ماهو – نمطي استنباطي خيالي – وما هو ذهني استقرائي .
وفي كتابه ” الصورة وموتها” يرى الفيلسوف الفرنسي برجيس دوبريه الى ان انشغالات الصورة النمطية ، والتخلص من مفعولها .. يبدأ باستئصالها من جذورها ، وينتهي بعدم الاشارة لها ، لكي يتاح تشكل الصورة الذهنية بدلا عنها .
المجتمع العراقي .. وعلى الرغم من حافز مدنيته ، فهو خاضع للصورة النمطية.. بسبب ثقل العادات والتقاليد وقوة الموروث الديني والشعبي الموغل بالقدم ، والموسوم بتراتيبية مستطيرة ، يغذيها وجود اهم رموزه من الائمة والاولياء ، والعلماء ومنابر الصوفية ، وتعدد المذاهب وتكاثر الطوائف .. التي احتفظت
بطقوسها وعاداتها وتقاليدها بشكل تقليدي مستمر حتى تم خطها على الصحائف .
وبعد تاريخ عراقي طويل من بزوغ الحضارات وتكون المجتمعات الزراعية والصناعية ، والحروب والتحولات التاريخية المهمة ،
التي بدأت بالسومريين ، وتوقفت بتدمير بغداد عاصمة العباسيين عام 1258.. الى تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 .
هنا لم يكن بمقدور الملك فيصل الاول نقل العراق من تراكمية نمطية بدوية متحجرة .. الى حالة مدنية متنورة .
لقد وجدالملك فيصل الاول نفسه محاطا باشكاليات محورية ، وقضايا جوهرية ، تتعلق بفكرة بناء وادارة الدولة العراقية المعاصرة ، على اسس حديثة ، تعيد للعراق بهاء التاريخ واشراقة الامم .
لكنه ويا للخيبة.. اختزل نظرته للواقع العراقي بمرارة غير معهودة ، واصفا العراقيين ، بصفات غير محمودة وهو يقول : ” لا يوجد شعب عراقي بعد ، بل تكتلات بشريةً خيالية خالية من الوطنية ، متشبعة بأباطيل وتقاليد دينية ، لاتجمع بينهم جامعة ، سماعون للسوء ، ميالون للفوضى ، مستعدون للانتفاض على
اي حكومة كانت..” .
والغريب .. ان الشعب العراقي ، مازال يقترب ، ولا يبتعد عن هذه الصورة النمطية المخزية ، على الرغم من نضالاته وثوراته وانتفاضاته والشعارات التقدمية لأحزابه .. ربما لافتقاره لمفهوم فن ادارة الدولة ، وبسبب الصراع المستمر على السلطة ، مما جعل البلاد والعباد بمنأى عن تبلور وتكوين مفهوم متقدم
للصورة الذهنية المشرقة .
والحل العملي لهذه المعضلة القائمة ، يكمن بترسيخ عوامل الثقافة والمعرفة ، بدلا من مظاهر التدين الزائفة ، وسطوة العشيرة َ والمذهب والطائفة .
ومثل هذا الشرط الثقافي الفعال ، عليه ان يثبت في المناهج الدراسية ، وينضج في المعاهد والجامعات ، بطرق واساليب وبرامج علمية مكثفة ومبتكرة .
والمهم في هذا وذاك .. خلق بيئة فكرية ضامنة ، محورها العلماء والمفكرون من حملة الشهادات والبحوث الرصينة .
وعندما نؤشر خارطة البيئة الثقافية الفاعلة المتوهجة بعقولها المعرفية ، فمعنى هذا وجود حوافز ورغبات وحاجات تقودنا بالنهاية الى حركة تنوير شاملة .. ترتقي بالمجتمع الى حالات وافاق علمية مبتكرة ، عمادها البحث العلمي ، وتطوير المهارات ، وقوامها الفكر وتفعيل الحوارات ، والاهتمام بمؤشرات الجودة
في المعاهد والكليات والجامعات .
العراق .. لا يمكن ان ينهض الا بسيادة العلم والمعرفة ونبذ الجهل والتخلف.. وخلق جيل واع مستنير ، من خريجي الجامعات المتخصصة ، لفن ادارة الدولة .
ان حركة التنوير .. تبدأ من تنشيط الدولة لنفسها ، وتطوير ادواتها ، وتحديث مناهجها ، وتنمية مواردها البشرية ، لتكون منسجمة مع عصرها وطموحاتها المستقبلية .
// انتهى
د كاظم المقدادي