أدب وفن

قراءة انطباعية لقصة /موت الناشر بقلم هناء العامري

الشبكة مباشر .....العراق ...البصرة

قراءة انطباعية لقصة /موت الناشر
بقلم هناء العامري

استطاع الكاتب أن يشدنا إلى عالمه، عالم الكتابة والطباعة والنشر ، وما آلت إليه
تجارة الكتب بعد أن انهارت كثير من الأنظمة
والقوانين التي كانت تتحكم بانسياب الابداع.
حاك جملته السردية الظاهرة والمضمرة بمهارة عالية بطريقة السهل الممتنع، حملها
بنسق مختلفة من بصمته الابداعية التي انفرد بها. قصة متكاملة من حيث مقومات القصة القصيرة؛ وحدة الموضوع، تكثيف، صراع، تشويق، خاتمة تميزت بالادهاش والمفارقة.
نص مرن، له نكهة خاصة، كل قاريء سيكتشف معنى جديد حسب منظاره الثقافي، وعمق ابحاره، وحسب دقة شبكة صيده من الجمل السردية.
” قبل عام رأيتك وانت في طريقك إلى دار النشر”…هذه الجملة تشير إلى الزمن الذي مرّ على المنحز والكاتب معا وهما في رحلة البحث عن من يأخذ بالنص ويجلسه أمام النور، يحرره من ظلمة الاختباء بين طيات الورق، زمن طويل والمؤلف يحلم بلحظة الانفراج .وهنا أول الخسارات، هدر بطاقة الابداع وتشتت بذهنية الكاتب الذي يحمل رسالته الانسانية من أجل الخير والاصلاح والسلام.
” في الغربة دور النشر……”
انها جملة الأنكسار الثقافي المحلي، وتأكيد التخلف بعدم الاكتراث بالبحث والمتابعة والاكتشاف والتجديد بالمعروض والمطروح، إنها النظرة المتهالكة إلى المبدع وكيف يتم التعامل معه ويزداد الأمر سوءا عندما يكون الكاتب لا يمثل جهة معلومة، كأن الابداع محصور بأسماء معينة دون سواها!
من أوسع المساحات السردية التي تحرك فيها
المياح وهو يلاعب ” رولاند بارت” في تنظيره الشهير، كاشفا عن رؤيته
المستقبلية لمدى صلاحية دور النشر لعملها، ولا يبدي الامر في هذه السهولة من الوهلة الاولى ، بل يتعداه ُ إلى أبعد من هذا حين يتخذ عنوانا لنصه
” موت الناشر”
ومن خلال متابعة جملته السردية التي كتبها بأسلوب إلسهل ا الممتنع المحملة بدلالات شتى، غزل حروفها بذكاء وفطنة، وهي سمة ابعدته عن الشائع والمألوف وحققت له التميز في خانة القصة القصيرة.
امتاز النص بالمرونة، ونكهة ثقافية عالية، استلهم مادته السردية من واقعه المعاصر فكانت جمله البنائية ذات انساق نحوية بدلالة مباشرة وصريحة، واخرى كان تصنيفها ادبية إيحائية رمزية بلاغية اما جملتهُ الثقافية فكانت تتضمن دلالة ثقافية مضمرة، مخبئة،
وهذا ما سهل له أن يقدم لنا بشكل واعي انساق جمالية
اما المخبئ و الحقيقي وبشكل غير واعي هو النسق الثقافي المضمر الناتج عن تضخيم الذات
أي الصور السلبية والقبيحة .
موت الناشر هو امتداد لموت المؤلف، وهذا يعني أن يتم قطع يده عن المنجز ُوانهاء كثير من صلاحياته، بمجرد الانتهاء من الطباعة التي تحفظ له رقم الابداع والتأريخ فهي بمثابة تسجيل أو بيان الولادة
مع الاسم، وهذا ما يدفع إلى فكرة الانطلاق في ثورة الاعلان الرقمي مما تؤدي إلى نتائج متفاوته مابين الفوضى الثقافية وما بين تحرير الابداع من القيود وعرضه بشكل فوري أمام الناقد والمتلقي من خلال النوافذ الالكترونية المفتوحة!

موت الناشر

للمرة الثانية، عند قدومه من السفر، يصادفه صديقه المغترب في الطريق. المرة الأولى كانت قبل عام.
-ما هذا الذي بيدك، لا تقل مخطوطة روايتك “موت الناشر”؟
-آه، هي تماما.
– قبل عام رأيتك وأنت في طريقك الى دار النشر!
– واليوم سأقابل مدير التحرير، كمحاولة أخيرة.
-في الغربة، دور النشر هي التي تبحث عن الكاتب وليس العكس!
••••••••

عندما وجد نفسه أمام الرجل في المكتب، بدت المقابلة أولها غير طبيعية. كانت خطوته الأولى قبل عبوره الشارع تشير إلى ذلك، فقد أبصر من مكانه لوحة صغيرة معلقة على واجهة المكتب، وبعد اجتيازه بصعوبة حركة المرور، رأى عبر الزجاج داخل المكتب، رجلاً يجلس خلف طاولة قديمة.
كان يتأبط أوراق مخطوطته التي عانت مثله بسبب التأخير، ومرورها على أصابع التمحيص، وبعد قليل يسلمها إلى الدار، لهذا الرجل الذي يبدو عصاميًا من الطراز الأول، فقد أضافت له اللوحة الاعلانية التي لا تتجاوز السنتمترات هّمًا آخرَ جديدًا..
حين سأله الرجل عن العنوان، استبشر خيرًا، وراح يتفحص وجهه ليتبين تجاعيده التي تكمن فيها بذور الإلهام. كان يبالغ باهتمامه بحيث يظهر تردده كلما وجّه له سؤالاً جديدًا يدس بين سطوره إشارة إلى “العنوان”. كانت نظرات الرجل تحفز عنده الشعور بالذنب لمجرد أنه الكاتب وهو الناشر الذي بيده كل شيء. رغم أنه يكتب نصًا خياليًا لا علاقة مباشرة لأحد به.. ولو أنه استمر يلفّ ويدور حول “العنوان”، فلربما تبقى الرواية سنين دون أن تصل إلى ضفة الأمان.
كان الرجل يتحدث باهتمام بالغ، ويركز بين حين وآخر على مفردة العنوان.. ويشير بأنه ربما امتداد للسجال الذي ظهر منذ فترة عن موت المؤلف أو موت الناقد. ولاحظه ينظر إليه بعمق تعلو وجهه ابتسامة غامضة:
-هل أنت تريد لنا الموت؟
-أبدًا، لا يصح هذا، وللتوضيح أكثر أو للدفاع عن نصه أو نفسه قال:
مثلاً أنهم حين قالوا بموت المؤلف لم يقصدوا سوى فصله عن النص بغية خلاصهُ، واستبعاده من طغيان الناقد. هل مجرد الفصل يعني الموت؟
ابتسم الرجل مرة أخرى وقال:
-ألا تعلم أن المؤلف يرتبط بنصه كما ترتبط السمكة بالماء، ألا تموت السمكة بفصلها وإخراجها من الماء..
– يا أستاذ هل يصح أن نقارن الإنسان بسمكة؟

شعر بإجابته هذه، أنه يمهّد الطريق لجدال عقيم لا يسير لصالحه. أخذ يفكر بطريقة مثلى للخروج من هذه المحنة. صحيح أن هناك ما ولّد لديه الإثارة داخل المكتب ودعاه للتسرع، وهو ما يكفي لإثارة جمهور غفير.. كان ذلك بعد أن سلّمه المخطوطة بقليل، اذ بدأت أنفاسه تتشبع برائحة الورق والحبر في المكتب، وكانت عيناه تتشبّثان بعيني الرجل من جهة، وانعكاساتها على العنوان الذي أخذ يثير حساسية خاصة، من جهة أخرى.
غاب على أثر ذلك في أجواء المكتب وموجوداته. بينما راح الرجل يقرأ ويقرأ. وهو لمّا يزل جالسًا أمامه. مرّ اكثر من ربع ساعة والرجل يقرأ. تلاه وقت آخر وهو ما يزال مكبًّا على الأوراق، لم تطرف له عين.
تأخَر عليه كثيرًا حتى داخله الملل، وراحت عيونه تدور في زوايا المكان، ابتداءً من الباب حتى رف الكتب الاخير على الحائط مرورًا بالطاولة التي يجلس عليها الرجل. سرح خارج المكتب، مرت بذهنه عدة أشياء، تذكر حوادث ومواقف وحكايات. غالبه النعاس اكثر من مرة، وكلما انتبه وقف مأخوذًا بكل حواسه، فقد أشعره صمت ذلك الرجل بالملل.

عدة مرات حاول أن يلفت انتباهه لكن دون فائدة. بدا صامتًا أمامه، لا يسمع منه غير صوت تقليب الأوراق. فكر أن يستغل عدم انتباهه، بأن يترك أوراقه ويخرج. ففيها اسمه وعنوانه ورقم تلفونه. حيث لا توجد طريقة أخرى.

في وسط الشارع العريض خارج المكتب، سمع صوتاً أتاه من الخلف:
أستاذ.. أستاذ!
…….
…..
تلا ذلك قرقعة وصراخ وأوراق تبعثرت هنا وهناك وسط الشارع!

قطع خياله نقر متقطع فوق الطاولة، رأى أمامه الرجل الذي مات قبل قليل بحادث سيارة، فرك عينيه وبحلق في وجهه، كانت لحظات سعيدة لكنها مشوبة بالألم، قلما نمرّ بها كمن يحلم بأنه وقع من مكان شاهق، ثم فجأة يجد نفسه في سريره.

بعد يأس شديد، ترك المخطوطة عنده فيها عنوانه ورقم هاتفه، وعاد إلى بيته مهمومًا. اتّصل به صديقه وقال:
– يُفضّل أن تغيّر العنوان.
وبعد تفكير طويل، رأى أن ما يقوله صديقه عين الصواب. لكنّ تغيير العنوان ليس بالأمر الهيّن، ويتطلب إعادة النظر بالنص.. بأكمله، والتداول مع الراوي والبطل حول ترتيب بعض الأمور و التوليفات.
شعر بأن الراوي الذي أوكل في سرد الحبكة استنفرَ لدى سماعه بالتغيير، ورفض الفكرة برمتها، مدعيًا بأنّه سيلغي توكيله فورًا! إذا أصرّ على تغيير عنوان الرواية أو إجباره على ذلك، وأوضح: ماذا يتبقى من الحبكة؟ أليس العنوان هو الأزمة الرئيسة التي تعالجها؟
– لكنه عنوان مستفز للناشر، أليس كذلك؟
-أنا أردته هكذا. لو فرضنا حاولت تغييره، ماذا سيكون البديل؟
– لنقل (حمّى النشر) مثلاً؟
-هذا العنوان يفي بالغرض لو كنت في بداية السرد، وليس في نهايته! احتفظ بهذا العنوان لروايتك القادمة. قال الراوي وصمت
••••••••

بعد أسبوع اتصل به الرجل الذي عرف لاحقًا بأنهُ المعاون وقال:
روايتك على مكتب السيد المدير. والرأي يعود له بالموافقة أو الرفض.
أدرك أن المشوار الصعب قد بدأ الآن، وقال مع نفسه: أنا أكتب دون أن يملي عليّ أحد، فلماذا أتقيّد بدار نشر أو مدير تحرير، وهناك أكثر من دار للطباعة، لماذا يقيّدني شخص واحد له مزاجه وميوله الخاصة؟ قال ذلك قبل أن يطرق باب مكتب المدير:
-أنت حضرتك رئيس التحرير؟
-تفضّل.
-وصلني أمس أنّ روايتي أمام حضرتك، ممكن أعرف متى يتم تحريرها؟
لم يلتفت مدير التحرير له، وانشغل بتقليب الأوراق أمامه.. أجرى مكالمة هاتفية.. دخّن سيجارة.. نبّه على السكرتيرة بالحضور، لكنّ السكرتيرة حين حضرت، لم تكن تحمل بيدها شيئًا!
تأوه فخرج صوته مسموعًا دون إرادته، لطالما كان يتحرّق لمعرفة رأيه بالرواية، ونتيجة مراجعاته. التفت المدير له، وقال ما لا يمكن تصديقه. بقي يردِّد كلمات المدير على طول الطريق حتى مكتب الطباعة:
“”سأُحررها بالوقت المناسب.. لماذا أنت مستعجل هكذا؟.. هناك دول مضى عليها أكثر من سبعين عامًا ولم تتحرر!”.
وقتها يئس منه وضحك بسخرية، وقال له قبل أن يخرج:
“عليك أن تعالج نفسك فقد تكون مصابًا بحمّى النشر!”

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى