أدب وفن

المحطة صفر ….د. زينب فاضل المرشدي

الشبكة مباشر ...العراق

المحطة صفر
ليس سهلاً أن تتنقل في محطة القطار وبحوزتك ثلاث حقائب متفاوتة في الحجم والوزن ولكني على أية حال وجدت طريقة مثلى لنقلهن معي فالمهم عندي ألا اتخلص من الوزنِ الزائدِ مثلما فعل الكثيرون …رتبت الحقائب في المخزن العلوي وجلستُ قربٓ النافذة تقابلني أمرأة في عقدها السابع ويجاورني رجل في عقده الخامس تقابله أمراة عشرينية تلهو في حجرها طفلة في سنتها الخامسة. ،وبينما يتجهز الجميع إستعدادا للرحلة، تقهقر القطار ولم نشعر بانطلاقه تبادلنا أطراف الحديث ثم سحب نفسه ودخل في سباق مع الزمن فتحت السيدة العجوز صندوق إكنانها وأفشت ما طمرته السنين وفي كل مرة تبتسم فيها يتلاشى بعضٌ من أخاديد وجهها حتى بدت كبدرٍ وضاح ،أشغلني ذلك الأمر فأصم أذني عن سماعِ حديثها ،ولّيت وجهي صوب الرجل الجالس جنبي هو الآخر كان مندهشاً تطلعت في رأسه الاشيب ،كانت شعراته البيض تفر وتختبئ خلف السود وكأنها تتبادل أماكنها فقد أختفى ضباب الشيب تدريجيا وحلت محله كتل سوداء متراصة ،أما المرأة العشرينية فقد توارت طفلتها خلف ثيابها ثم خمصٓت بطنها ،وددت كثيراً أن أطالع وجهي في المرآة ولكن الخوف تملكني ،وبينما كنت أراقب وجوههم وهم يسافرون بأزمنة سالفة طاف علينا موظف القطار ليخبرنا أننا على وشك الوصول الى المحطة القادمة ومن أراد البقاء فيها عليه أن يرمي جزءا من حقائبه ،كانت حقيبة هذه المحطة هي الأصغر حجماً والأثقل وزناً من بين حقائبي الثلاث ،كانت فارغة تقريبا إلا من بقايا طلاء أظافر وأحمر شفاه ووثائق دراسية وخلاصة المواقف ،فأن رغبت في البقاء بهذه المحطة عليّ أن أبقي على هذه الحقيبة وأتخلص من باقي الحقائب ! ،نهضت الشابة العشرينية ولوحت بيدها مبتسمة عند باب القطار وانصرفت ونزل معها بعض المسافرين
أنطلق القطار متقهقراً، كان جميع الركاب يطالعون أنفسهم في المرايا بين دهشة وفرح ،أنتقلنا الى المحطة اللاحقة ودّعني الرجل الجالس بجواري وانصرف وانصرف معه لفيف من المسافرين ، كانت حقيبتي الثانية جلدية وهي أكبر حجماً من سابقتها وتحتوي على ضفيرةٍ وكيس حناءٍ وصور مغنين ورسائل غرامية ورغم أنها خفيفة الوزن ولكنها تتمايل يميناً ويساراً وتخف وتثقل وكأن داخلها بركاناً مربوط الفوهة بحجرٍ كريمٍ ثم انتقلنا الى المحطة الأخيرة
أنزلت حقيبتي الثالثة وفتحتها كانت أكبرهن حجماً فهي أشبه بصندوقٍ مصنوعٍ من الحديدِ المطلي بدهانٍ أزرق ٍ خفيف وهي تعادل نصف طولي وتحمل في داخلها البضاعة الأكبر وقد جمعتُ فيها ما لذ وطاب من ذكرياتٍ طفوليةٍ كعلبة معجون أسنان فارغة بنكهة الشوكولاتة وسوار من أسناني اللبنية ومجموعة صور وطوابع جمعتها من يانصيب العلكة وحذاء وردي مزركش كنت أرتديه رغم تآكل أطرافه ولم أرضٓ أن أُفارقه حتى أصبح جوفه لا يتسع لقدمي وأيضا شهادات متعاقبة مذيلة بعبارة الناجحة الاولى
ورصيد لا بأس به من الأحداث والمواقف وألعاب وطبشور وملابس العيد، لم يبق في القطار إلاي ،بقيت واقفة أطالع حقائب ذكرياتي أيهم تبقى معي
وأي مرحلة في حياتي هي الأهم
صاح موظف القطار
– حددي موقفك بسرعة فالقطار على وشك أن ينطلق
-وما هي المحطة القادمة ؟
-المحطة صفر
– أي مرحلة تلك المحطة؟
-نعود من حيث أتينا
أنشرحت أساريري ورفعت حاجبيّ قبولا
-إلى المحطة صفر

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى