لطالما انشغل التاريخ باحداث سقوط وانتصارات، محتل ومستعمر بفعل عسكري يحقق بعدا سياسيا ترسمه قوى الصراع نفسها ..
للحروب قضاياها ، اهدافها، طموحاتها ، خلاصاتها مهما اختلفنا بين مواقف التضامن او العداء..
في الحضارة اليونانية كانت الحروب طقس بطولة، هدفها انتاج الابطال بحيث اعتبر الجسد القادر والقوي معيارا للترقي الاجتماعي،الا انه على الرغم من قوته يخضع سياسيا للاذعان والولاء، فهذا الجندي العملاق جسدا، سوف يتوج بطلا بقدر ما ينفذ من أوامر ويفي بمهمات،فان تكون بطلا وصاحب مكانة اجتماعية عليك التغيب فكريا والولاء والخضوع في هذه المعادلة المتناقضة لصناعة البطولات ..
لاحقا، يتخذ مفهوم الحرب بعدا اوسع من الجسد، وتصبح الحرب مصنعا لترويج المنتج الفكري الديني، فأتخذت الحروب طابعها العسكري لنصرة الدين، بالتالي برمجة الخضوع والطاعة نحو ما هو ارفع قيمة من الجسد لتبدا معه مسارات الفتك بالاجساد الغير مؤمنة من المهزومين عسكريا بمسميات وتهم عدة، وتصبح الحرب صناعة للفكرة البطلة ،وليس الجسد البطل.
في مرحلة اكثر تقدما، تظهر الآلة، لتتخطى بطولة الفكرة الماورائية وتحتل الصدارة تفوقا ورُقِيا لمن يملكها نظرا لما تحققه من وفر مادي وسلعي لاقتصادات وشعوب الدول، فتنازلت الحروب عن الفكرة البطلة تباعا نحو التوظيف المادي الذي اقرته عقلنة المرحلة فتستعيد الحروب بُعدها البشري، كان على الشخص ان يموت حتى تنتصر الوفرة المادية، وباتت الحرب تملك خصائص التسليع، استعدادا ،وتحضير لعناصر الانتاج المادية والبشرية والنقدية والبيئية والضرورات التسويقية لضمان الارباح والنجاحات العسكرية، من جهة، ولاستعادة التكاليف والأرباح من جهة اخرى، بات للحرب اسعار سوق، تتطلب دراسات جدوى واستنفار كافة الامكانات لتحقيق النصر، لتبرز أطراف رديفة،مستحدثة تخوض الحرب الى جانب الجيوش من قوى سياسية تضع الاهداف، تجار ومستثمرين لتحديد المكتسبات،اسر وعائلات تقدم العنصر البشري المؤمن بضرورة الحرب ، متطوعين لخدمة هذه الكوادر وتسهيل المهام …فكان من لزوم ذلك توفير فريق فني رفيع المستوى للتسويق وبث القيم الجديدة لخدمة اهداف مبطنة قد لا تخدم العامة بالمباشر الا انها ستحقق أهداف جيوسياسية ..
فعلى مخططي الحروب اقناع الجماهير بضرورة الموت دفاعا عن غامض ما ، عن قضية ما، وعليهم الاهتمام بفريق التسويق هذا ،وجعله الأم والأب والأسرة الحاضنة للمعارك، لتهتم النخب الثقافية على تنوعها في بث روح المواطنة، قيم الدفاع، الحقد ،العداء، الدفاع والانتماء…
قديما استخدم الفن كوسيلة لتسجيل الأحداث وتوثيقها، بينها أحداث الحرب، وتشهد على ذلك آثار تركتها الحضارات السابقة. ومع مطلع القرن العشرين شهدت مدارس الفنون المختلفة تطوراً كبيراً، وبدأ الفنانون في اعتماد أساليب اكثر حداثة في التوثيق عبر اقامة متاحف متعددة لتخليد ذكرى أحداث بعينها لتحرز دويا عالميا، ومراكز وقاعات فنية اهتمت بإقامة معارض استلهاماً من أجواء الحروب، ومن أشهرها المعرض الذي نظمه متحف الفنون في جامعة ويليامز عام 2006 تحت عنوان “العذاب الجميل: التصوير والتجارة بالآلام”، وارتكز على تقديم صور رصدت المعاناة الإنسانية في أحداث مختلفة للحروب برؤية مجموعة من المصورين إلى جانب جمع الصور وتوثيقها في كتاب. إضافة إلى معرض الحرب الأهلية والفن الأميركي الذي نظمه متحف سميثونيان للفنون في واشنطن عام 2013، وجمع بين تقديم اللوحات التشكيلية والصور الفوتوغرافية التي رصدت هذه الفترة، وميز هذا المعرض “أن جميع الأعمال التي عرضت فيه تم تنفيذها أثناء فترة الحرب.
فمن يمكنه تخطي والت ديزني في إنتاج أفلام دعائية لحكومة الولايات المتحدة بين ١٩٤١ و ١٩٤٥ ؟
وكيف تحولت شخصية مارلين مونرو إلى نشاط اقتصادي سياسي ،أثناء الحرب الكورية، لتقدم عرضا حيا أمام الجنود الأمريكان في كوريا، ما أثار إعصارا إعلاميا في الصحف الأمريكية.
وكيف اصبح الشاعر العراقي مظفر النواب ايقونة المعارضة السياسية لنظام قمعي؟
وارتباط اسم الشاعر محمود درويش بالثورة الفلسطينية مطالبا باستعادة الارض والوطن فكان له ان كتب وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني وتم اعلانها من الجزائر،فعرف كأحد أدباء المقاومة والتحمت قصائده بالقضية الفلسطينية حتى سماه البعض بشاعر الجرح الفلسطيني..
وغيرهم الكثير من المؤثرين فكرا وتجهيزا للقاعدة الشعبية بما يخدم الاهداف المرسومة .
يطالعنا حاليا نمط مستحدث من توصيف الحروب بما لم تشهده الحقبات السابقة ، حرب يقودها فريق بعناوين دينية مذيلة بالبعد المادي استعدادا واحتضانا وتسويقا في مواجهة فريق اعزل،يشبه الى حد كبير الرمزية اليونانية القديمة،حرب الاجساد القوية -الخاضعة،صناعة الابطال،لتقع غزة في اليتم، حرب بلا أسرة حاضنة، بلا أم ولا أب ،بلا فريق تسويق يؤمن سلامة معايير التضامن …لا تملك غزة في تسويقها التضامني غير الاشلاء،والبطون الخاوية، ليتشكل التسويق من قساوة المشهد نفسه ينتج ويقلب الرأي العام العالمي، بغض النظر عن النتائج الواقعية لهذا التضامن او تثمينه عسكريا برقمية الانتصار و الخسارة…غزة تتعرض لغزو الاجساد، بمسميات الابادة، وكلما اشتدت الحرب قساوة كلما ارتقى شأن البطولة مكانة، فهذه العمالقة ،عملاقة ببعدين، البعد الجسدي، وبعد الالتزام حد الغياب الفردي.
فكيف تغيب هذه العمالقة وتبقى منها اشلاؤها؟
هي لا تغيب يغيب الجسد وتستمر اسطورة البطولة ،
وتصبح الأشلاء وحدها قصة الاسرة الحاضنة حتى يبدو لوهلة موجعة، بان المعتدي نفسه ليس بريئا من انه فرق تسويق التضامني متجاوزا قواعد وفلسفات الحروب ،حتى يبادرنا سؤال ليس اقل وجعا:
ماذا او لم تكن الحرب على هذا القدر من الهمجية والبشاعة؟
ماذا لو اقتصر القتال عسكريا جيش ضد جيش؟
ماذا لو تطمر الاشلاء من الاجساد؟
ماذا لو لم يسمع بكاء الخوف من الاطفال ؟..
خديجة جعفر
6/6/2024