رواية “متنزه الحريم” للدكتور عبد الهادي سعدون تطلع أنثربولوجي لإستقراء الإنسان و المجتمع
#الشبكة_مباشر_بروكسل_بقلم: د. ضياء الجنابي

في خضم عالمنا الغارق بالتشويش والاضطراب والتغييرات السريعة الغير متوقعة في أغلب الأحيان،يتأجج في ذات الكاتب المبدع والمثقف الحقيقي الحساس بشكل عام،والروائي على وجه الخصوص،الكثير من القلق الخلّاق والارتباكات المتصارعة والمحتدمة أحياناً لخلق نص سردي متميز، وفي ظل ذلك تكون مهمة الروائيأكبر من خلق صور جميلة أو الغرق في تفاصيل لا طائل تحتها أو الانشغال بأوهام وأحلام بوهيمة عائمة وخداعة، لأن مهمته الحقيقية تتجسد فيإدخال القارئ معه في حقل ألغام الفكرة أو زجه في المحتوى الفكري الذي يريد طرحه دون خوف أو حذر من إنفجار بعض الألغام، وبعد ذلك يحاول إشراك قارئه في اكتشاف مناطق التوتر والبحث عن شظايا الرؤى المبثوثة في تفاصيل النص الروائي، دون الاكتراثبلملمتها فيما بعد.
وكلما كان الروائي متمكناً من أدواته التعبيرية والتحليلية، وعلى صلة ناضجة مع تطلعات مجتمعه وطبيعة العلاقات الانسانية فيه، يكون النص واعياً وشاملاً ومضيئاً لمناطق العتمة، وهذا ما جعلالرواية كجنس أدبي تنطويعلى غايات كبيرة تؤهلها أن تكون منجزاً مبهراً وشديد الصلة مع هموم الناس وآمالهم، وبالفعل فإن الكثير من الروائيين يمتلكون قدرات استثنائية في بلورةالعلاقة مع القارئ وتفعيلها،وجعله يغوص قدر الإمكان في بحر الرؤية المركزيةللنص لتلمس جوهرها المكنون في القاع، وفي ذلك كله يكون القارئ والكاتب على حد سواء غير آبهين بالمتناقضات الصارخة والانعطافات الحادة والمسارات الشائكة والنتائج المفجعة التي قد تنجم عن النص، وهذا بحد ذاته من جانب آخر يساعد على ضبط إيقاع الحوارية الأزلية بين الذات الإنسانية والحركة المجتمعية.
ومن المعلوم أن الرواية الحديثة كجنس أدبي، تمتلك مقومات كثيرة تجعلها مركز استقطاب وهضم الكثير من التوصلات في جميع طرق المعرفة الإنسانية، كونها تشتمل علىالكثير من الفرضيات والنظريات العلمية والفكرية والاجتماعية والتاريخية، وأن تلك التوصلات بقدر أهميتها في مجالاتها تعد أسساً ارتكازية يستند عليها البناء الروائي أيضاً، ومن خلال النصوص الروائية المهمة والرصينة يتضح أن أي نص روائي يحرص على تقديم سلة من التوصلات المعرفية للقارئ يثبت من خلالها أن الرواية بحد ذاتها أطروحةأنثروبولوجية كاشفة ومؤثرة، وقد تتقدم على الكثير مما يطرحه علماء الأنثروبولوجيا في أحيان معينة، ذلك لأن الرواية بتنوع مدارسها الفنية ومناهجها المختلفة وأنساقها المتعددة، تمتلك روحاً استقصائية وثابة ومساحة كبيرة تكفي لتشخيص منحنيات الواقع واستنباط القوانين المحركة له، وبالتالي يتسنى لها الكشف الواعي عن طبيعة الصراعات التي يعاني منها الواقع والمجتمع وتأثيراتها على الإنسان المعاصر.
وفي الروايات المعاصرة التي تعنى بالهموم الإنسانية والمجتمعية، نجد أن إبراز العلاقة الحيوية بين الرواية والإنسان من جهة، والرواية والمجتمع من جهة أخرى تقتضيالتركيز علىطبيعةهموم الكاتب وأفكاره وتطلعاته الذاتية وقدرته على تثويرها في آن واحد،إلى جانبقدرته علىتصوير قضايا مجتمعهومعطياته وتحولاته، وهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرات الكاتب التعبيريةوما تتيحه أدواته الفنية من استطاعة على الولوج إلى أبعد حد ممكن في سرائر شخوص الرواية، وتصوير خلجات النفس الإنسانية وتحليلها بعلمية ومنهجية إلى جانب استقراء جميع مفردات الواقع وتصوير أدق تفاصيله مع توظيف أعلى مستوى منقدرات الكاتب التخييلية لحد امتزاج الواقع بالمتخيل في بوتقة واحدة.
وتوكيداً على هذا الفهم نجد أن رواية “متنزه الحريم” للكاتب والأكاديمي والمترجم العراقي المقيم في إسبانيا د.عبد الهادي سعدون منذ وهلتها الأولى تنفذ بجلدها من مستنقع التقريرية في محاولة جادة للهرب من الأسلوب الحكواتي، بل أن د.عبد الهادي سعدون باعتباره روائياً وشاعراً ومترجماًيؤكد في هذه الرواية رغبته الجامحة بالانفلات عن جميع القيود المادية والمعنوية، بل أنه حسب اعتقادي يتحاشى التجنيس الأدبي في سعي دؤوب للبحث عن ذاته المغتربة وجغرافية وجوده وماهية كينونته،لكي يصل إلى استكناه مكانه في هذا العالم المبعثر.
أما على صعيد بناء الأحداث ورسم الشخصيات يحاول الكاتب تجسيد ذلك من خلال الشخصية الرئيسية في الرواية وهي شخصية “سيدي” الذي يسعىلإسدال الستارعلى ماضيه في محاولة لنسيانه أو تناسيه كحد أدنى، رغم مآسيه المحفورة في الذاكرة،فيعمد إلى التأقلم مع واقعه الجديد لكي يبتعد عن مخاوفه القديمة وينسى ذكرياته الأليمة التي تراوده بين الفينة والفينة مثل الكوابيس الثقيلة التي تجثم على الصدر، وكأن جل ما يبتغيه هو العيش بهدوء وطمأنينة، والابتعاد عن مراجعة النفس وعن الاستذكار، لذلك قام بابتكار اسم جديد لهوارتدى قناعاً جديداًفي تعامله مع الواقع الذي يعيش فيهباعتباره الحقيقة الدامغة للحياة، بعد أن قطّع جميع الوشائج التي تربطه بماضيه في بلده الأم، لعله يفلح في صناعة تاريخ جديد له، على الرغم من أنه يعيش في محطات عمره الأخيرة، لكنذلكلا يتسنى له.
الشخصية الرئيسية في الرواية تبدو وكأنها شخصية أسطورية هائمة على وجهها، لولا الفجائع الموثقة والأقدار الضاغطة والنكبات التراجيدية المستقاة من الواقع في مرحلة سياسية معينة طويت صفحتها وأصبحت جزءاً من التاريخ، وهذه بطبيعة الحال محاولة لتسليط حزمة الضوء على تراجيديا قديمة دون أن تشمل بقعة الضوء الكاشفة هذه ما يحدث في الواقع الراهن الموبوء بالتناقضات والمآسي التي تصل حد الرعب،الواقع المتخم بالتسلط وسحق التطلعات الانسانية للفرد المعاصر والشعوب بشكل عام من خلال تغليب لغة الحروب وإشاعة قيم الاستبداد وتكريس حالة الوجع في النفوس، ويبدو أن الكاتب من خلال تلميحات معينة لايريد أن يعيدنا أدراج الماضي أو إلى تفاصيل المقطع الزمني المنصرم، بقدر ما يريد أن يدلفنا في طقوس لعبة الزمن والأقدار، لأن حركة الزمن دائرية، وما كان قائماً بالأمس أصبح ماضياً وما هو جديد اليوم سيصبح قديماً غداً وهكذا دواليك.
وحسب اعتقاديأن الروائي لا يمكن أن يكون مجرد حكّاء، وذلك لأن قدراته التعبيرية والتخييلة أرقى من خبرات الحكّائين التي لا تعدو عن توليف الحكايات الصغيرة في قالب الحكاية الكبيرة، كما أن الرواية كجنس أدبي أرقى بكثير من صناعة الحكايات وتزويقها المج أحياناً، وإن تبدو لدى الكثير من القراء أنها مجرد سرد فني لحكاية ما، بتعليل أن استهلال معظم الروايات يبدو وكأنه استفتاح لحكاية ما،وبعد ذلك تختلف الحكايات حسب اختلاف وتنوع أساليب الروائيين، وهذا رأي يحمل في طياته تعسفاً بائناً يحاول لي عنق الحقيقة، لأن الرواية في كل الأحوال ليست مجرد حكاية بالمرة.
الدكتور عبد الهادي سعدون لم يعتمد في هذه الرواية الأسلوب التقريري في توثيق الأحداث، بل كتب عنها من خلال إحساسه وإسقاط الواقع على دخيلته، وكأنه يجمع كل حمولات الوجع الذاتية والموضوعية ويضعها على عاتقه، لذلك نجده يحاول تصوير عمق الواقع ونبضه، وليس وصفه من الخارج أو مجرد رسمه، وأعني رسم ظواهره الخارجية التي قد تخدع البصر أحيان كثيرة.