قانون الأحوال الشخصية وجدلية زواج الكفء بين المحو والبقاء
#الشبكة_مباشر_سامراء_د. سهام السامرائي
الجزء الأول ( زواج الكفء في العصر الجاهلي )
إنَّ قاعدة الحياة الاجتماعية تقوم على ضرورة اجتماع كائنين لا غنى لاحدهما عن الأخر ، هما الرجل والمرأة ، واهتمامًا من العربي بتلك العلاقة وضرورتها من أجل استمرار الوجود في أجيال متعاقبة ، وما تتمخض عنه من ثمرات تتطلب الحماية والرعاية والتوجيه كان تنظيمها حتميًا، لمنع الفوضى والاضطراب الاجتماعي (1) ،ولتنظيم هذه العلاقة أصبح الزواج أمرًا حتميًا،لا بد منه، لضرورة المرأة للرجل والرجل للمرأة ، كما ترى ذلك أمامة بنت الحارث وهي توصي ابنتها ، إْذ تقول : (2)
(( أي بُنيَة ، إنَه لو اسْتَغْنتِ المرأةُ بِغنى أبَويها … كُنتِ أغنى النَّاسِ عن الزّوجِ ، ولكن للرِّجالِ خُلِقَ النِّساءُ، كما لَهُنَّ خُلِقَ الرِّجالُ )) .
لقد أدرك العربي أنَّ الزواج عز والعزبة ذل ، ولهذا يوصي عوف بن كنانة الكلبي بنيه بالزواج ويحذرهم من العزبة، لأنّه يرى فيها ذلة ، إذْ يقول : (3)
(( يا بَنِيَّ ، احفَظوا وصيَّتي ، فإنَّها أنصَحُ الجِبِلّةِ لكم … إياكُمْ والعُزبةَ فإنَّها ذِلَّةٌ ))
.ولإيمان العربي بضرورة الزواج وعدم امكانية الاستغناء عنه ، تشدَّد في أسس الاختيار للرجل والمرأة على حد سواء ،لإدراكه قيمة العلاقة الزوجية ووزنها ، ففي رحابها تنبت الطفولة وتدرج وتشب،ومن تعاليمها وتوجيهها يتصل جيل الطفولة بالجيل السابق عن طريق تسرب وامتصاص وتمثل القيم والمبادئ والمعايير السائدة في المجتمع ، وقد هيا العرب لتلك العلاقة معطيات الاكتمال لتنهض بثقة بعبء تبعات الحاضر والمستقبل . ذلك أنَّ تلك العلاقة ليست عابرة او مؤقتة ، وإنَّما هي في بدءها ومنتهاها علاقة انسانية تقوم على اسمى قيم ومبادئ ومعايير الحياة الاجتماعية المودة والرحمة والسكن(4).
وانطلاقًا من هذا الفهم الواعي لطبيعة هذه العلاقة المقدسة فقد حرص الآباء على ضرورة حسن الاختيار عند الزواج ، فقد حذروا من تزويج المرأة من غير كفئها كما في وصية عوف بن كنانة الكلبي، إذْ يقول :(5).
(( يا بَنيّ ، احفظوا وَصِيّتي ، … لا تَضعوا الكرائِمَ إلا عند الاكفاءِ)).
إنَّ إصرار العربي على توفر شرط الكفاءة في الزواج دليل على أهمية هذه العلاقة في نظرهم اذ وجدوا فيه عزًا حادثًا ، فهذا حِصن بن حُذيفة الفزاري يوصي أبناءه بوجوب تزويج بناتهم من الكفء لأنّه عز حادث ، إذ يقول :(1).
((انكِحوا الكَفِيءَ مِنَ العَرَبِ فإنَّهُ عزٌ حادثٌ )) .
ويؤكد العرب ضرورة توفر شرط الكفاءة في الزواج ، فمنهم من يرى أنَّ بقاء المرأة بغير زواج أجدر وأشرف لها من الارتباط بغير كفيئها ، فعلى سبيل المثال نرى زُرارة بن عُدْس وهو يوصي ابناءه ويدعوهم الى ضرورة تزويج النساء من الأكفاء وإلا فالقضاء أولى لهن ، إذ يقول :(2).
(( يا بَنيَّ ، وزوجوا النِّساءَ الأكفاءَ ، وإلا فانْتَظروا بِهنَّ القَضَاءَ )) .
أما عمرو بن كلثوم ففي وصيته التي أوصى بها بنيه فقد حثهم فيها على تزويج بنات العم ،من أبناء العم ، فزواج المرأة من ابن عمها أولى من البعيد إلا في حالة توفر شرط الكفاءة فعند ذلك لا يجد خيرًا من تزويجها من الغريب ، إذ يقول : (3)
(( وزوجوا بناتِ العَمِّ بني العَمّ فإنْ تَعدّيتُم بِهنَ الى الغُرباءِ ، فلا تألوا بِهنَ الأكفاءَ ))
وفي هذا دليل على أنَّ الكفاءة قد تلغي قيمًا اجتماعية تحدد ضوابط الزواج وانحصاره ضمن حدود القبيلة أو في دائرة الاقرباء. وهذا ما جعل دريد بن الصَّمّة يحذر قومه من تزويج الرجل الدنيء وخصوصًا اذا كان غريًبًا لأنّه يرى ذلك عارًا إذْ يقول : (4)
((ولا تُنكِحًوادنيًأ من غَيرِكُمْ، فإنَّهُ عارٌ عَلَيْكُمْ )) .
لقد أكد العرب على أهمية وضرورة الزواج لبناء علاقة اجتماعية سليمة، وحذروا من تعطيل أو ايقاف هذه الرابطة الانسانية المقدسة إلا اذا كانت غير متكافئة وهذا ما جعل قيس بن زهير يوصي النمر بن قاسط بأنْ لا يرد النساء عن زواج الاكفاء،وإلا فالموت خير زوج لهن , إذ يقول :(5).
(( لا تَرُدّوا النِّساء عنِ الأكِفاءِ، فإنْ لَمْ تُصِيبوا الأكِفاء فإنَّ خَيرَ ازوَاجِهِنَّ القَبر )) .
ومثلما شدَّد العربي على ضرورة اختيار الكفء من الرجال زوجًا للمرأة اكرامًا لها ، وحفاظًا على شخصيتها ، فقد حدد سمات اختيار الزوجة الصالحة متجاوزًا المظاهر الزائفة المرتبطة بالمال والجمال وما الى ذلك ، مما يبعد النظر أحيانًا عن التقويم الصحيح الصائب لكل ما يطفو على السطح من مظاهر خادعة كاذبة (1).
لقد اشترط العربي فيمن يختار من النساء أنْ تكون صريحة النسب لأنّه مدرجة الشرف ، كما يرى أكثم بن صيفي وهو يوصي بنيه :(2)
(( يا بنِيّ، لا يَغلِبَنّكُمْ جمالُ النّساءِ عَنْ صَرَاحةِ النّسَب، فإنَّ المناكِحَ الكَريمةَ مَدْرَجَةٌ للشَّرفِ))
أما القلمس فقد شدَّد في وصيته على ضرورة نكاح المرأة الكفء من ذوات العفاف والطهر والحسان اخلاقا ، إذْ قال :(3)
((أوصيكُمْ… إن نَكَحْتُمْ في العَربِ فاختاُروا ذَواتِ العَفافِ والحِسانَ أخلاقًا ))
وحذر الآباء أبناءهم من أنْ تكون مناكحهم من بيوتات السوء انطلاقًا من إدراكهم لأثار البيئة الاجتماعية على سلوك الانسان ، ذلك أنَّ الطفل في سنواته السبع الاولى يمتص ويتشرب ويتمثل كل أنماط السلوك الطيبة والخبيثة التي تمارس في بيئته الاجتماعية،ثم يشرع بعد ذلك في اجترار تلك الانماط السلوكية ومحاكاتها (4) ،وهذا ما دفع مروان بن زِنباع العبسي الى التحذير من التزويج في بيوتات السوء ، إذْ قال : (5)
(( إياكُمْ والتزويج في بيوتاتِ السُّوء؛ فإَّن له يومًا ناجِثًا )).
وإذا كان العربي قد أدرك اثار البيئة الاجتماعية في سلوك الانسان ، فإنَّه قد أدرك عامل الوراثة واثره في خصائص الفرد البايولوجية ، فقد ثبت علميًا (( أثر العوامل والأسس البايولوجية في نمو الكائن البشري ، ولا شك أنَّ العوامل التكوينية تلعب دورًا هاما في ظهور السمات الفيزيقية والعقلية والسلوك كالذّكاء والنزعة الاجتماعية والاستجابات الانفعالية )) (6)، لهذا حذر العربي من الزواج بالحمقاء ، وشدَّد في وصاياه على عدم الارتباط بها ، كما في وصية أكثمُ بن صيفي ، إذْ يقول : (7)
(( إياكُمْ ونِكاحَ الحمقاءِ، فإنّ نِكاحَها غَرَرٌ وَوَلدَها ضَياعٌ )) .
فالحمقاء لا تلد الا من كثر شرهَّ، وضعف عقله، لذا فقد حذر العرب من الزواج منها فهذا مالك بن المنذر البجلي يوصي بنيه بتجنب المرأة الحمقاء، قائلًا :(1)
(( وتَجَنَّبوا الحَمْقَاءَ فإنّ وَلدَها الى أفنٍ ما يكونُ ))
ويوصي سعد العشيرة بعدم الزواج من الحمقاء لأنها أدوأ الداء إذ يقول :(2)
(( وإيّاكم ونِكاحَ الورهاءَ فإنّها أدوأُ الدّاءِ )) .
وهكذا نجد العربي قد وضع المعيار الذي لا يختل، لإقامة الحياة الزوجية ، وقد برهنت التجارب على صحة هذا المعيار، وصدقته في مختلف الأساليب الشائعة لتشكيل الاسرة (3).