حبا الله لغتنا العربية الفريدة بخصائص لا توجد في لغة سواها؛ ومن ذلك أنها على كثرة مفرداتها وتعدُّد مترادفاتها وتنوُّع معانيها؛ تنفرد كل مفردة منها بما ليس في سواها، وتختلف دلالتها باختلاف السياق، وتتعدَّد معانيها بِتعدُّد متعلَّقاتها، فنجد أن الكلمة الواحدة، بل الحرف الواحد؛ يؤثر في تعدُّد التوجيه الدَّلالي وما يلحق به من توجيهاتٍ أخرى تتعدد بتعدُّدِه وتختلف باختلافه، وفي هذا المقال أمثلة على تعدُّديَّة المعنى في الشعر الجاهلي، من خلال عرض أبيات تتعدَّد فيها المعاني دون أن يتغيَّر ضبط أو رسم ألفاظ الأبيات.
قال امرؤ القيس [ت: 80ق.هـ]:
وإنَّ شِفائي عَبْرةٌ مُهَراقةٌ = فهَلْ عندَ رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
والشطر الثاني من هذا البيت يحتمل معنيين؛ أوَّلُهما أن يكون تأكيدًا لقوله في الشطر الأول من ثاني أبيات هذه القصيدة:
فتُوضِحَ فالمقْراةِ لم يَعْفُ رسمُها = لِما نَسَجَتْها مِن جنوبٍ وشَمْألِ
فكأنه لمَّا نفَى عفاء تلك الرسوم؛ أراد أن يؤكد ذلك، فذكر بكاءه، ثم سأل مستنكرًا: (فهَلْ عندَ رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ)؛ أي: لو كانت رسومها عَفَتْ ودرسَتْ ما عوَّلتُ عندها؛ أي: ما بكيتُ؛ وفي هذه الحال يكون استفهامه استنكاريًّا.
والمعنى الثاني: أن يكون استفهامه طلبيًّا؛ أي: هل أجد مجالًا للبكاء على هذا الرسم الدارس؟ ويكون في هذه الحال قد ناقض نفسه كما أشار إلى ذلك المرزباني [ت: 384هـ] بقوله: «وعِيب على امرئ القيس قوله: (فتُوضِحَ فالمقْراةِ لم يَعْفُ رسمُها)، ثم قال: (وهَلْ عندَ رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ)».
وقال طرفة بن العبد [ت: 60ق.هـ]:
ستَصْبَحُكَ الغَلْباءُ تَغلِبُ غارةً = هنالكَ لا يُنْجيكَ عَرْضٌ مِنَ العَرْضِ
وهذا البيت -إن صحَّت نِسبته لطرفة- يحتمل معنيين؛ أولهما: تهديد طرفة بن العبد لعمرو بن هند [ت: 45ق.هـ] بأنَّ قتْلَه إيَّاه سيجعل بني بكرٍ -قوم طرفة- يتخلَّون عن نصرة عمرٍو إذا حاربته بنو تغلب، ولذلك وصفها طرفة بالغلباء تخويفًا لعمرو؛ حتى يَذكُرَ عمرٌو وقوف بني بكر معه فيرجع عن قتل طرفة؛ والمعنى الثاني: فيه تهديد أيضًا من طرفة لعمرٍو بأنه إنْ قتله؛ ستَنسَى بنو تغلب عداوتها مع بني بكر، ويقفون معًا ضد عمرو بن هند ثأرًا لطرفة، بل وسيشنُّ التغلبيون الغارة ضد عمروٍ تأكيدًا لذلك؛ فبَنُو تغلب أبناء عمٍّ لبني بكر.
وقال طرفة أيضًا:
ولا أُغِيرُ على الأشعارِ أسرقُها = عنها غَنِيتُ وشَرُّ النَّاسِ مَن سَرَقا
وإنَّ أحسنَ بيتٍ أنتَ قائلُهُ = بيتٌ يُقالُ إذا أنشدتَهُ صَدَقا
وكلمة (صَدَقَ) في نهاية البيت الثاني، تحتمل معنيين؛ الأول: أن تكون الكلمة عائدة على معنى البيت المشار إليه بقوله (أحسن بيت)؛ أي: صدق الشاعر في المعنى الذي ذكره في بيته؛ والثاني: أن تكون عائدة على نسبة البيت؛ أي: صدَق الشاعر؛ فهذا البيت له ولم يسرقه؛ والدليل على هذا المعنى الأخير هو قول طرفة في البيت الأول نافيًا عن نفسه سرقة الأشعار، واصفًا السارق بأنه شر الناس.
وقال طرفة أيضًا:
ولا غَرْوَ إلَّا جارتي وسُؤالُها = ألا هَلْ لنا أهلٌ، سُئلتِ كذلِكِ
جملة (سُئلتِ كذلكِ) من قبِيل الدعاء، وتحتمل معنيين؛ الأول: أن تكون موجهةً إلى ابنة مالكٍ التي يشبِّب بها في هذه القصيدة، يدعو عليها أن تُسأل مثل هذا السؤال الذي وجَّهته إليه جارته؛ حتى تحسَّ مرارة الغربة التي يحسُّها، والمعنى الثاني: أن يكون ذلك الدعاء على جارته، يدعو عليها أن تُسأل مثل ذلك السؤال الذي سألتْه إيَّاه؛ لأنها عيَّرته بوحدته.
وقال زهير بن أبي سلمى [ت: 13ق.هـ]:
قِفْ بالدِّيارِ التى لم يَعْفُها القِدَمُ = بَلَى وغيَّرها الأرواحُ والدِّيَمُ
والشطر الثاني يحتمل معنيين أراد الشاعر أحدهما؛ الأول: أن الديار عفت من الرياح والمطر، وليس من القِدم؛ والثاني: أن الديار عفت من القِدم، ثم غيرت الرياح والأمطار آثارها، وعلى هذا المعنى الأخير يكون الشاعر -كما روى المرزباني- «أكذَبَ نفسه»؛ حيث نفى عفاء الديار في الشطر الأول، ثم أثبته وأكَّده في الشطر الثاني.
وقال الشَّنفرَى [ت: 70ق.هـ]:
ولولا اجتنابُ الذَّامِ لم يُلْفَ مَشربٌ = يُعاشُ به إلَّا لديَّ ومأكلُ
وهذا البيت يحتمل معنيين؛ أوَّلُهما: أن الشاعر يقصد ذمَّ الإسراف، فهو لا يحب أن يأكلَ كلَّ مأكولٍ أو يشربَ كلَّ مشروب؛ والمعنى الثاني: أن الشاعر يعبِّر عن فقره وقوَّته وعفَّته؛ فهو فقير لكنه قادر على الإغارة على الناس وسلبِ أموالهم، التي يستطيع بها أن يأكل ويشرب كلَّ ما يمكن أكلُه أو شربُه، إلا أنه يعفُّ عن ذلك لأنه أمرٌ مذموم، فيكفيه أن يجمع من المال ما يعيش به عيشة متواضعة تحفظه من الهلاك.
وقال عروة بن الورد [ت: 30ق.هـ]:
أتَهزأُ منِّي أنْ سَمِنتَ وقَدْ تَرَى = بجِسميَ مَسَّ الحقِّ، والحقُّ جاهدُ
جملة (والحقُّ جاهد) تحتمل معنيين؛ أولُّهما: أن تكون جملة استئنافية، فتفيد الإطلاق؛ أي: إن الحق يجهد الناس؛ والمعنى الثاني: أن تكون جملة حالية، فتعني أنه يؤدي الحق في حال كون الحق مجهِدًا، وجهدُ الحق كما شرحه ابن السِّكِّيت [ت: 244هـ] هو «أن الحق يطرُقُه، فيؤثره على نفسه وعلى عياله، والحق الذي ذكره هو صلة الرحم، وإعطاء السائل وذوي القربى».
وقال عروة أيضًا:
ذرِيني لِلغِنَى أسعى فإنِّي = رأيتُ النَّاسَ شرُّهمُ الفقيرُ
والشطر الثاني من هذا البيت يحتمل معنيين؛ أحدهما: أن الشاعر يعبِّر عن اعتقاده الخاص؛ بأن شرَّ الناس هو الفقير، والمعنى الثاني: أنه أراد أن يبيِّن سوء معاملة الناس للفقير، وليس بالضرورة أن يكون ذلك هو معتقده الخاص؛ وإنما سوء معاملة الفقير جعله يتمنَّى الغِنَى حتى لا يكون مِثله في أنظار الناس.
وقال دريد بن الصمة [ت: 8هـ]:
وهل أنا إلا مِن غزيَّةَ إنْ غَوَتْ = غَوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزيَّةُ أرشُدِ
وهذا البيت يحتمل معنيين؛ أحدهما: نزول الشاعر على رأيِ قومه بني غزيَّة، والتسليم لهم، فهو معهم في الحق والباطل؛ والمعنى الثاني: أن يكون مراده وحدة العاقبة والمآل، وليس اتفاقه معهم في الرأي الذي لا يقتنع به؛ أي إنه مؤاخَذٌ بضلالهم ومأخوذٌ بغيِّهم وإن لم يكن موافقًا لهم في ذلك؛ ولا يمكن هنا تغليب أحد المعنيَيْنِ على الآخر؛ لأنَّ كلًّا منهما له شواهده في القصيدة التي منها البيت المذكور؛ فهو يقول قبله مباشرةً:
أمرتُهُمُ أمري بِمُنْعرَجِ اللِّوَى = فلَمْ يَستَبِينوا النُّصحَ إلا ضُحَى الغدِ
فلمَّا عصوني كنتُ منهم وقَدْ أرى = غَوايَتَهُمْ وأنَّنِي غيرُ مُهتدِ
فالبيت الأول من هذين البيتين يؤكد أنه أراد المعنى الثاني، والبيت الثاني يؤكد أنه أراد المعنى الأول؛ أي: نزوله على رأيهم والانقياد لهم في ضلالهم وغيِّهم، مع عِلمه أنه مخطئ في ذلك.
وفي هذه النماذج المذكورة من تعدُّديَّة المعنى؛ نجد أن بعضها يتساوى فيه المعنَيَان، وفي بعضها يكون أحدهما أجوَدَ من الآخر، كما أن بعضها يَظهر فيها مرجِّح لأحد المعنيَيْن، وفي بعضها تتساوى القرائن، ويكون الفيصل حينئذٍ في الوقوف على مناسبة الأبيات، والخصائص الأسلوبية الشائعة عند قائلها.