مقالات

ترامب والسطو على غزة

#الشبكة_مباشر_بغداد_الكاتب ناجي الغزي

في تاريخ القوى العظمى، هناك لحظات تمثل اختباراً حاسماً لقدرتها على الاستمرار، حيث تندفع نحو سياسات قائمة على الهيمنة والغطرسة المطلقة دون حسابات دقيقة للتوازنات الدولية أو التداعيات طويلة الأمد. هذا تحديداً ما يجسّده نهج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يسعى إلى فرض واقع جديد من خلال مقاربة أحادية تتجاهل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، غير عابئة بردود الفعل أو العواقب، مستنداً إلى قوة السلاح الأمريكي كوسيلة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية وفقاً لمصالح واشنطن واسرائيل في الشرق الاوسط.

قرار ترامب بالتحرك نحو غزة، وكأنه استئناف لنهج القوى الاستعمارية التقليدية، لا يعكس فقط استهتاراً بالقواعد الحاكمة للنظام الدولي، بل يضرب عرض الحائط بكل المواثيق الدولية ويقرر، بكل عنجهية، السطو على مدينة غزة! بأسلوب المستعمرين القدامى، ويعلن ترامب أنه سيأخذ غزة بموجب السطوة الأمريكية، أي بقوة السلاح الأمريكي، وليس بأي شرعية قانونية أو سياسية. وكأننا أمام عودة جديدة لعصر الإمبراطوريات التي تستولي على الأراضي بالقوة، غير آبهة بشعوبها أو تاريخها أو حتى بالدماء التي ستراق بسبب قراراتها المتغطرسة.
وهذا يشير إلى إدراك أمريكي متزايد بأن زمن الهيمنة المطلقة يقترب من نهايته. إذ غالباً ما تلجأ الإمبراطوريات، في مراحل أفولها، إلى سياسات أكثر عدوانية في محاولة يائسة لاستعادة السيطرة أو تأخير التراجع المحتوم.

*غزة: نقطة ارتكاز في صراع الإرادات*

منذ عقود مثلت غزة عقدةً جيوسياسية استعصت على محاولات السيطرة والإخضاع، من الإمبراطوريات القديمة إلى القوى الحديثة. واليوم، تعود الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب لتكرار التاريخ، ولكن برؤية جديدة، ترى في تهجير سكان غزة وإعادة رسم خريطة المنطقة حلاً للصراع المزمن.
في البيت الأبيض، وأمام الملك الأردني عبد الله الثاني، طرح ترامب خطته المثيرة للجدل، حيث طالب الأردن ومصر باستقبال أكثر من مليوني فلسطيني من غزة، متعهداً بأن الولايات المتحدة ستتولى إدارة القطاع بكفاءة ومهارة. بدت للبعض ان هذه التصريحات انعكاساً لسذاجة سياسية واستخفافٍ بتعقيدات الصراع العربي الإسرائيلي، بينما رأى آخرون فيها محاولة متطرفة لحسم النزاع بعيداً عن الحلول التقليدية.
غير أن تاريخ غزة يحمل في طياته دروساً لمن يتجاهل واقعها. فمحاولات الإخضاع المباشر، سواء بالقوة العسكرية أو بالحصار الاقتصادي، لم تزدها إلا مقاومةً وإصراراً على البقاء. أي خطة تهدف إلى تفريغ غزة من سكانها وفرض هيمنة أمريكية عليها ستواجه ذات المصير، حيث لن تؤدي إلا إلى تفجير ديناميكيات المقاومة مجدداً، وتعميق الأزمات التي استنزفت المنطقة لعقود.
لا يتوقف نهج ترامب عند حدود الشرق الأوسط، بل يتعداه إلى خيال سياسي يعيد إلى الأذهان حقبة الاستعمار الإمبراطوري. فقد صرّح في أكثر من مناسبة عن رغبته في ضم كندا، واعتبر أنها يجب أن تكون جزءاً طبيعياً من الولايات المتحدة، متذرعاً بضرورة توحيد (الأصول الأنجلوساكسونية). كما أعاد طرح فكرة شراء جزيرة جرينلاند من الدنمارك، زاعماً أن امتلاك جزيرة استراتيجية كهذه يعزز من القوة الأمريكية في القطب الشمالي. ولم يكتفِ بذلك، بل تحدث عن إمكانية السيطرة على قناة بنما وخليج المكسيك لحماية المصالح التجارية الأمريكية.
أما على الصعيد الاقتصادي، فقد مضى ترامب قدماً في حربه التجارية عبر فرض رسوم جمركية باهظة على البضائع الأوروبية والمكسيكية والكندية والصينية، في محاولة لابتزاز هذه الدول وإجبارها على تقديم تنازلات سياسية واقتصادية. هذه السياسات، وإن بدت هجومية، تكشف ضعفاً استراتيجياً عميقاً، حيث أن الاعتماد المفرط على العقوبات الاقتصادية والتعريفات الجمركية يعكس فقدان الأدوات الدبلوماسية الفعالة، ويفتح المجال أمام القوى المنافسة، مثل الصين وروسيا، لتعزيز نفوذها على حساب واشنطن.

*الهيمنة الأمريكية: مرحلة الانحدار البنيوي*

إن التاريخ يخبرنا أن أي قوة عظمى تصل إلى قمة نفوذها، تبدأ بعدها في التراجع والانهيار، تماماً كما حدث للإمبراطوريات الكبرى من قبل. الولايات المتحدة اليوم ليست كما كانت قبل عقدين من الزمن؛ فالاقتصاد الأمريكي يواجه تحديات كبرى، والمجتمع الأمريكي يعاني من انقسامات حادة، والسياسات الخارجية الأمريكية تخلق أعداءً أكثر مما تحقق مكاسب.

ترامب، بقراراته العدوانية، لا يعجّل فقط في تفكيك النظام الدولي، بل يضع أمريكا في مسار تصادمي مع العالم بأسره، بما في ذلك حلفاؤها التقليديون. فالعالم لم يعد كما كان في التسعينيات، حين كانت واشنطن تتحكم بالقرار العالمي منفردة. اليوم هناك قوى أخرى صاعدة، سواء كانت الصين أو روسيا أو حتى تحالفات إقليمية بدأت تدرك أن الاعتماد على أمريكا لم يعد خياراً مضموناً.
وهناك عدة مؤشرات واضحة على أن واشنطن لم تعد قادرة على ممارسة سلطتها بنفس الحزم الذي ميزها بعد الحرب الباردة ومنها:
1.الأزمة الاقتصادية المتفاقمة وارتفاع الدين العام، وتباطؤ النمو، والتضخم المتصاعد كلها عوامل تؤشر إلى أن الاقتصاد الأمريكي يفقد موقعه كمحرك رئيسي للاقتصاد العالمي، خاصة في ظل صعود اقتصادات بديلة مثل الصين والهند.
2.التوترات الداخلية العميقة والانقسامات الاجتماعية، والاستقطاب السياسي، والتراجع في ثقة المواطنين بالمؤسسات الأمريكية كلها عناصر تهدد التماسك الداخلي، مما يُضعف قدرة الولايات المتحدة على تنفيذ مشاريع خارجية كبرى دون تكاليف مرتفعة.
3.التراجع الاستراتيجي على الساحة الدولية، هناك تحديات متزايدة تواجه النفوذ الأمريكي في عدة مناطق، حيث لم تعد الدول، بما فيها الحلفاء التقليديون، تعتمد على واشنطن كقوة ضامنة لاستقرار النظام الدولي. المنافسة الجيوسياسية أصبحت أكثر وضوحاً مع قوى كالصين وروسيا، اللتين تعملان على إعادة تشكيل المشهد الدولي وفق مصالحهما.

وحين تنحسر الهيمنة الأمريكية، وهو أمر حتمي وفق المنطق التاريخي، ستكون الشعوب الأمريكية نفسها أول من يدفع الثمن. فلطالما بنت واشنطن نفوذها على أساس القوة العسكرية والاقتصادية، لكن ماذا يحدث حين تتآكل هذه القوة؟
• أزمات اقتصادية متصاعدة: سيواجه الأمريكيون تضخمًا متزايدًا، وسيتراجع الدولار تدريجيًا كعملة مهيمنة، مما سيؤدي إلى انخفاض مستوى المعيشة داخل الولايات المتحدة نفسها.
• تفكك داخلي: المجتمع الأمريكي يعيش اليوم على صفيح ساخن، حيث تتزايد الحركات الانفصالية والتوترات العرقية، وحين تفقد واشنطن سيطرتها الدولية، ستنعكس هذه الأزمات على الداخل الأمريكي بشكل خطير.
• فقدان النفوذ السياسي: ستبدأ الدول التي كانت تخضع للضغط الأمريكي بالتمرد، وستبحث عن بدائل سياسية واقتصادية، وستكون الصين جاهزة لملئ الفراغ السياسي والاقتصادي, مما سيفقد واشنطن قدرتها على فرض أجندتها كما تفعل اليوم.

*ما بعد أمريكا: هل العرب مستعدون؟*

السؤال الجوهري ليس متى ستتراجع الولايات المتحدة، بل كيف سيستثمر العالم العربي هذا التحول؟ هل سيبقى رهينًا لمنظومة الهيمنة التقليدية، أم سيعمل على بناء تحالفات جديدة تعيد صياغة دوره في المشهد الدولي؟

إن التحولات الجارية في النظام العالمي تفتح أمام الدول العربية خيارات استراتيجية أكثر تنوعاً من ذي قبل، خاصة مع بروز قوى جديدة تسعى لإعادة تشكيل موازين القوى بعيداً عن النفوذ الأمريكي الأحادي. إن إدراك هذه اللحظة التاريخية والعمل وفق استراتيجيات بعيدة المدى سيكون عاملًا حاسماً في تحديد موقع العرب في مستقبل ما بعد الهيمنة الأمريكية.

ترامب قد يظن أن القوة العسكرية وحدها كافية لفرض الإرادة الأمريكية، لكن كما علمنا التاريخ، لا تُحسم الصراعات الكبرى فقط بقوة السلاح، بل بالقدرة على قراءة مسارات التاريخ واستباق مآلاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى