أدب وفنكلمة العددمقالات

دولة شين…. مأساة الاختلاف

#الشبكة_مباشر_د.زينب أبو سنة

يقول مانسون ان الانسان يهرب مما يهدد أيديولوجيته وهويته،
ولكن ماذا لو كان من يقرأ النص غير قادر على فهم السياقات، ولا مستويات الخطاب ولا ما بعد الحداثة في العمل الروائي المختلف؟ ماذا لو كانت عملية التلقي شاقة على شريحة عقول محددة تعودت على النمط دون سواه، فصعب عليها تقبل المختلف، واغفلت أن البراعة في طرح الأسئلة الفلسفية، تكمن في إعادة قولبة الفكرة المتجذرة في الوعي الانساني الجمعي بشكل متطرف وصادم وصدامي، لغة و مقاربة وترميزا، ماذا لو كانت الرواية عن الشر… المطلق الذي يتفاقم في عوالمنا اللامرئية ويخرج للعلن على هيئة سلوك منحرف قاتم سيحاسب عليهم اليشر وحدهم، وليس شياطينهم،
ماذا لو كانت هذه الرواية فعلا تخاطب نخبة النخبة، طالما أن مستوى التلقي العام فشل كلية في إدراك المغزى وضبط مهارات السرد الروائي والتجديد فيه، فأدان العمل وقزمه وحاكمه من منطلق المنظور الضيق وليس من منطلق التجديد والتقولب والغرائبية الجديدة!!

تراجيديا شخصية شين

كل النصوص الرمزية التي تطلق الأسئلة الفلسفية الكبرى تتسم بصفات خاصة، إنها المراوغة و الإرباك وتطويع اللغة ودلالة الأسماء، فلا قداسة لشخوص عمل روائي ولا تقاطعات مع نصوص مقدسة، فالعمل نفى عن نفسه الحقيقة، حين جاور عملية التخييل الشاقة بواقع سوداوي مضطرب صادم تتبدل فيه الأدوار، ف شين هنا، هو شخصية مثالية نقية في مملكة الجبل، وبعصيانه وتمرده لانجد خطيئة التكبر ولا التعجرف، بل الغيرة الإنسانية العميقة من( نديم) و المتولدة من المحبة، وتتحول مثالية شين في رحلة هبوطه إلى بيكارسكية مفرطة، يواجه فيها عوالم الشر البشري بدهشة وقنوط وقرف ونفور واشمئزاز في صحراء تأمله الموحشه، ليكتشف الصورة الأنقى للشر في الباب الثالث عشر، من خلال التجسس والتلصص على العوالم البشرية، تختلف الصورة المتداولة، ويختلف الدور، وتطرح الأسئلة الكبيرة، على شين نفسه، الباحث عن الحقيقة، ليجد ان شرور البشر ومافعلوه بأنفسهم ومن حولهم اكثر ضراوة وعنفا وقسوة وظلما مما يمكن تخيله، ان ما يفعله البشر الآن قد تجاوز الخطيئة الأولى…

بين الثيمة والموضوعة وهاجس الاختلاف

لن يستطيع اي قارىء أن يتمسك بأيديولوجيته أيا كانت حين يقرأ هذا العمل ببساطة وقبول، لابد من الرفض الكلي او الجزئي، لكنه رفض يختص بثقافة قارئه، فثيمة الصراع بين الخير والشر، متفاقمة بتفاقم مثلث الغواية الذي لا ينفك عن الامتداد والتوسع، فنجد أن شين يغدو بطلا تراجيديا كسيرا على غير الصورة المألوفة ، بينما شياطين البشر هم من يوغلون في عوالم الشر والطغيان، تنقلب الموازيين ويفقد شين تهمة الشر لصالح واقع طاغ يتحكم به البشر وشياطينهم فيغدو ملاكا بريئا وعاجزا، بينما تتلخص الموضوعة في حصر فكرة أساسية.. إن ما يفعله البشر ببعضهم البعض من جرائم قد تجاوز زمن الخطيئة الأولى لشدة ظلمه ومرارته وشراسته وفظاعته.
انها صورة غير نمطية مختلفة كلية عن النسخة المتوارثة في وعي جمعي انساني شمولي.

الترميز الدلالي في السياق والتغريب البريختي

كل مهارات السرد الروائي في هذا العمل تتلخص بمنهج التغريب البريختي، إذ نجد مأساة وصراع الشخصية الرئيسية المهانة المنفصلة عن واقعها، فهو نادم متشكك يجد لنفسه مبررات عديدة لن يصدقها مجتمع التلقي، عنيد ومتردد ومتلهف للوصول لحقيقة ما لا يفهمه، لا يستطيع أن يرجع عن قراره بسبب كبرياء زائف، وواقعه المؤلم يدفعه للبحث عن مخرج للعودة لمن يحب ويجل، يتلصص ليفهم فيتألم ويصدم ويشعر بالقرف من جرائم البشر بحق بعضهم البعض والتي ألصقت به، ولا يدرك ان هبوطه في هلاميةالزمن قد فقد رؤيته النبيلة كما يظن لير أن لعنة الشر التي اقترنت بعصيانه قد فاقها البشر طغيانا وكفرا وإجراما في تتابع الزمن وفي غموض غيابه وفي قوة المجهول الافتراضي الذي خص كل عالم على حدة.
تجاورت العوالم التخيلية مع قصص الواقع السوداوي الصادم، مشهدا لمشهد، انتقالات مربكة للقارىء العادي، سياقات لغوية مقصودة السمة، فللحظة، انت في عالم تخيلي مطلق مليء بالوهم، وفي اللحظة التالية انت في عمق واقع مرير جارح لا يمكن النجاة من قصصه. واما السمة الثالثة للتغريب هنا فنجدها ضمن،إشكالية تشابك الرمزية والدلالات، فللأسماء دلالات، و للأماكن الغامضة المجهولة إشارات سيميائية مثل العمل المؤسساتي النقابي الهيكيلي لشياطن البشر، صحراء شين المتوحدة، نماذج الإجرام اللاإنسانية على اختلاف مبرراتها الواهية، فكرة الظل الصوفية التي أعيد تشكيلها كرمز للشر البشري (القرين الواعي) ، كله يندرج نحو خلق شعور النفور، التفكر ونداء فلسفي لعودة الإنسان لفطرته الأولى المجبولة على المعايير الأخلاقية في واقع معاصر تنتقد فيه الكاتبة انحلال المعايير الأخلاقية وفساد منظومته الفكرية الإنسانية على حساب الاستسلام لوهم السلطة والشهوات الحيوانية والانحراف السلوكي على اختلاف تصنيفه.

لغة الخطاب و النهايات المفتوحة

لم تتبنى الكاتبة لغة ثابتة ببصمة خاصة، بل استطاعت ببراعة ان تنقل اللغة ضمن مستويات متعددة قصدية، فالاستهلال في مملكة الجبل ناعم وجميل وانسيابي ومباشر، اللغة سهلة متداولة مفهومة و حكائية، وبتصاعد الاحداث وخروج شخصيات الشر المطلق للعلن، نجد اللغة الفجة، والهوامش الأيروسية، و المشاهد الحسية المثيرة للنفور والصدمة والابتذال والقرف والألم ، مع الفجاجة تأتي حزمة المشاعر المتشابكة الضدية التي ستحاصر القارىء، ستخرجه من قوقعة بديهياته إلى عوالم جديدة موجودة صادمة وقاسية تحاكم معايير أخلاقه و ضوابطه الإنسانية، ونلاحظ كيف ان اللغة الصدامية تهدأ في مناجاة شين لنفسه فتغدو أشبه بلغة المقامات الرصينة الفخيمة ، ليعلو صوت الثيمة بشكله العام كصراع بين مد وجزر، فتشكيك ويقين ورغبة ونفور، إن الثوابت الوجودية التي يطلقها شين علينا من خلال حواراته الداخلية هي أسئلة مضنية لا يقينية تزج القارىء في عالم التفكر الصعب… وتسمح له وحده بالاجابة عليها

ليست وفاء عبد الرزاق الأولى ، فقد سبقها لهذا الموضوع، دانتي أليغيري في رائعته (الكوميديا الالهية) التي مازالت بعد سبعة الاف عام تلهم شعب ايطاليا كتراث إنساني فلسفي بعيدا عن سلطة الفاتيكان الشهيرة، التي يدخل الناس الى جحيمها بسبب عدم استخدام عقولهم، وفكتور هوغو في ملحمته الشعرية، التي ظهر فيها الشيطان بريئا من ذنوب البشر ومآسيهم او رسالة الغفران لأبي العلاء المعري حيث الجحيم للشعراء ومن يتبعهم، لتتكرر أسماء مثل أستورياس، كريستوفر مارلو، غوته، توفيق الحكيم، يوسف إدريس ،.. ثم أولاد حارتنا لنجيب محفوظ. لكل منهم كانت له دولة فلسفية مغايرة عن دولة شين.
حين يصدمك الأدب… إلى أبعد حد.. ويثير لا نهائية المعنى الجدلي
دام الإبداع. . .
#النقد رؤية محلقة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى