
المشروع القومي العربي صراع الوعي والهوية في زمن التجهيل
أ. د. محمد طاقة
السؤال الذي يواجهنا باستمرار
(( هل يوجد مشروع قومي عربي حقيقي ؟))
يبدو هذا السؤال بسيط للوهلة الاولى ، لكنه في الحقيقة يحمل في طياته أخطر ادوات التشكيك ، فحين يطرح هكذا سؤال فإنه لا يستهدف مجرد فكرة او مشروع ، بل يمس جوهر الهوية والانتماء والحق في الحلم والتغيير .
كل مشروع عظيم يبدأ بحلم ، والإنسان لا يحقق شيئا ًإن لم يبدأ بحلم ، الأحلام هي بذور الأفكار ، والأفكار تتطور إلى مشاريع ، والمشاريع تتجسد بالنضال والعمل الدؤوب .
المشروع القومي العربي الحقيقي لم يكن استثناء فقد ولد كحلم في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي ، وتبنته حركات قومية عربية ، كان تركيزها منصباً على الوحدة القومية وإحياء الروح العربية ، لكنها لم تعالج بعمق مسائل العدالة الاجتماعية والتخلف والتجزئة .
وهنا جاء حزب البعث العربي الاشتراكي ليطرح مشروعاً متكاملاً يرتكز على ثلاثية مترابطة جدلياً (( الوحدة ، والحرية ، والاشتراكية )) ساعياً إلى معالجة أزمات الامة ومقاومة الاستعمار وتحقيق النهضة . هذا المشروع حظي بتأييد جماهيري واسع النطاق من المحيط إلى الخليج ، ولا يزال حياً في وجدان الكثيرين رغم كل محاولات التشكيك والتشويه .
ليس من الغريب ان يكون المشروع القومي العربي هدفاً رئيسياً للمشروع الصهيوني العالمي ، فهما مشروعان متناقضان تماماً .
لذا سخرت الصهيونية كل أدواتها ، وعلى رأسها الإعلام ، لضرب هذا المشروع من جذوره ، ومن اخطر الوسائل التي استخدمتها (( التشكيك )) فقد عمل الإعلام الموجه على بث افكار الهزيمة واليأس ، وادعى ان الوحدة العربية حلم مستحيل وطوباوية لا تتحقق ، وان كل محاولات التوحيد باءت بالفشل ، دون ان يطرح الاسباب الحقيقية لهذا الفشل ، هل كانت عوامل داخلية فقط ؟
ام ان التآمر الخارجي كان هو الحاسم ؟
التشكيك هنا ليس في جدوى المشروع فحسب ، بل في وجوده من الاساس .
حين يسألون هل يوجد مشروع قومي عربي حقيقي ؟
فهم لا يبحثون عن اجابة ، بل يسعون إلى طمس الفكرة من الوعي الجمعي ، وتفريغ الذاكرة من مشروع كاد ان يصنع نهضة شاملة ، وتحويل العرب إلى شعب بلا مشروع بلا هوية بلا مستقبل .
لم يكن استهداف المشروع القومي العربي بمعزل عن استهداف الإسلام ذاته ، لما بينهما من علاقة جدلية قوية ، الإسلام روح العروبة ومن دونه لاتكتمل هويتها .
ولذلك فقد سعى المشروع الصهيوني إلى ضرب الإسلام من الداخل من خلال زرع الطائفية وتمويل فعاليات الانقسام المذهبي ، والتشجيع على ممارسات مشوهة تظهر الإسلام بصورة مختلفة امام الغرب ، كاللطم والبكاء المبالغ فيهما ، التي تم تصديرها حتى إلى شوارع لندن وباريس ، في محاولة متعمدة لتشويه الإسلام وزرع الكراهية ضده في المجتمعات الغربية .
كما عملت هذه القوى على دعم المنظمات الارهابية التي ترتدي ثوب الإسلام زوراً ، لتظهره كدين عنيف ومتخلف ، لا كرسالة حضارية ، ولم يكتفوا بذلك ، بل مارسوا سياسة التشكيك بأبرز القادة العرب ، فاتهموا المرحوم جمال عبد الناصر بالخيانة ، وشوهوا إنجازاته ، وكرروا السيناريو ذاته مع الشهيد صدام حسين ، فقط لانهم شكلوا خطراً على المشروع الصهيوني وكانوا حاملي لواء القومية والوحدة .
المشروع الصهيوني استهدف العروبة والإسلام والعلاقة الجدلية بينهما ، كون هذه العلاقة تمثل صلب المشروع القومي العربي ، فضلاً عن استهداف العرب بتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم ، كما جاء على لسان مفكرهم الصهيوني الحاقد على العرب والإسلام (( برنارد لويس )) حيث يقول :
(( ان العرب والمسلمين قوم فاسدون ومفسدون فوضويون لا يمكن تحضيرهم ، ولذلك فان الحل السليم للتعامل معهم هو اعادة احتلالهم واستعمارهم وتدمير ثقافتهم الدينية )) ، هكذا يتم مواجهة المشروع القومي العربي الحقيقي ووفق هذا المنهج العنصري واللاانساني .
يعتمد المشروع الصهيوني العالمي على سياسة التشكيك الممنهجة ، اذ يسعى إلى زعزعة ثقة الامة العربية بنفسها ، من خلال تصويرها كأمة فاشلة ، لا تمتلك قدرات مادية او بشرية ولا تمتلك مشروعاً قومياً حقيقياً ، ولا رؤية واضحة او تخطيطاً للمستقبل ، ولا تاريخاً مشرفاً ، ولا مفكرين وعلماء ، بل يُصور العرب كعالة على العالم ، امة فاسدة ومفسدة لا تستحق الحياة ، يجب محوها من الوجود ، هذه السياسة تستهدف وتغزو العقل العربي لتفكيك مشروعه الوحدوي القومي .
ومن هنا نفهم استهداف الغرب الامبريالي للبلدان التي تبنت المشروع القومي العربي ، كما حدث في العراق وسوريا وليبيا ولبنان واليمن وفلسطين .
ومن ادوات المشروع الصهيوني المعادي ، قلب المفاهيم وتشويه الوعي ، اي تحويل المقاومة إلى ارهاب ، والوحدة إلى طوباوية مستحيلة ، والقومية إلى رجعية ، في حين يُسوّق التبعية والانبطاح على انه (( واقعية سياسية )) وهذا الانقلاب المفاهيمي اخطر ما يهدد وعي الأجيال الجديدة ، اذ يجعلها تتخلى عن أحلامها ، وتقبل الواقع المهين وكانّه قدر لا مفر منه .
ان المشروع القومي العربي حي مادام هناك من يحلم ، نعم يوجد مشروع قومي عربي حقيقي ، وهو لم يكن وهماً ، ولا سراباً بل مشروعاً عاشته الامة في مراحل مفصلية ، واثبتت الجماهير انها مستعدة للتضحية من اجله ، والتشكيك به لا يعني فشله ، بل يعكس خوف اعدائه من ان ينهض من جديد .
من تجارب الشعوب عبر التاريخ نعرف ان الامة التي تحلم وتعمل بجد واخلاص لأجل تحقيق الحلم لا يمكن ان تهزم طالما احتضنت الجماهير العربية المشروع القومي بوصفه ضوءاً ينير دربها نحو الحرية والعدالة ، ستظل جذوته مشتعلة مهما ثقلت عليه المؤامرات ، وان السؤال هل يوجد لدى الامة العربية مشروع قومي عربي حقيقي ؟
نعم لديها مشروعها القومي العربي الحقيقي ، الذي ولد من رحم الحلم ، وتغذى من نضال الشعب العربي وواجه المؤامرات وهو باقٍ
ما بقي الإيمان به حيا ..
عمان
21/4/2025