الغضب الخلاق ودوره في الأدب
فائزة داود
يتساءل الأدباء والنقاد عن الأسباب التي أدت إلى إحجام المخيلة الإبداعية المعاصرة وما قبلها عن خلق شخصية ملحمية بحجم شخصية آخيل وشخصية جلجامش ، ويلحون في تساؤلهم هذا حين يستعرضون ما مر بالبشرية من ويلات وحروب في العقد المنصرم ، ويتوقفون طويلاً عند الحربين العالميتين الأولى والثانية ، ولا يستثنون من ذلك الحروب العربية الإسرائيلية والصراعات الأهلية والتصفيات العرقية والغزو الأمريكي للعالم الذي تم تحت حجج واهية وأهداف معلنة ومضمرة وبأقنعة مختلفة الأشكال والألوان ، ويتفق الجميع على أن ما حدث في القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحالي يفوق في فظاعته ما حدث في أوروك جلجامش وطروادة آخيل بمئات المرات وربما أكثر .
ترى هل تكلست رؤوس المبدعين ؟ أم أن الأسباب تعود إلى جملة عوامل يصعب تخطيها أو القفز فوقها ، منها على سبيل المثال ما يتعلق بأسئلة طرحتها الملحمتان في زمنهما وأجاب عنها العلم والدين في العصور اللاحقة ، وبالتالي انتهت الحروب وانتهى دور الأبطال وما عادت الفيزيسا تشغل العالم وتخيف البشر ؟ وربما انبرى أحد ليقول : إن العبرة في الجنس الأدبي ، فالرواية أو القصة تعجز عن تخليد الأبطال لأن الأولى تعنى بالمجموع والثانية تعتمد على فن اللقطة ، كما أن رجل الشارع لم يعد يؤمن بوجود هكذا أبطال ، خاصة وأن الزمن الحالي والسابق لا تحكمه البطولات الفردية … ، وقد يجيب متابع على السؤال بتأكيد على أنه ثمة شخصيات أدبية عظيمة منها راسكولينكوف ، عاشور الناجي…الخ ، وثمة من يرى العلة في النمط الأدبي ، فالملحمة تتدفق شعراً وغرائبية ، والرواية تنبسط سرداً وواقعاً ، والنفس الإنسانية هي شاعرة بالفطرة وتعشق الغرائبية ولذلك فإن الطبيعي أن تتماهى مع ملحمتي الإلياذة وجلجامش ، في حين ترى في راسكولينكوف وعاشور الناجي شخصيتين معقدتين ، ويصعب التماهي معهما وترديد أحلامهما أو حتى بحثهما الوجودي ، وقد يكون ذلك صحيحاً لولا حقيقة لا لبس فيها تقول : إن قريحة الشعراء ما زالت تجود شعراً ، وما ذكر قد لا يكون كافياً لتبرير عزوف أو عجز المبدعين عن خلق شخصية أدبية موازية لشخصية جلجامش وآخيل ، وهذا يجعل السؤال قائماً والأجوبة أو لنقل الاحتمالات مفتوحة ، وأفترض أنه من حق أي متابع للحراك الأدبي البحث عن الأسباب ، وبالتالي أرى من حقي أن أطرح احتمالاً يتعلق بالنفس البشرية ، وهذا الاحتمال يسمى ( الغضب )، وهو ثيمة بشرية ارتبطت بمفردة ( لجم ) ( من اللجام الذي تربط به الدابة كي لا تحيد عن الطريق التي رسمت لها ) ، وهي في المحصلة تخضع لإرادة صاحبها ، إذ لا مانع لديه بأن يكون غضبها ( سرعة) توصله إلى هدفه في أقصر وقت ممكن ، لكن ، ماذا عن الغضب البشري ؟ ، لقد عُرف الغضب عبر كتب التراث بأنه سلوك يخرج المرء عن طوره ويؤذي صاحبه في حال لم يلجمه ، كما أنه يجرح مشاعر من حوله ، ولذلك فالغضب ملعون ومحظور في الكتب السماوية وهو سلوك مكروه بين البشر، ونقيضه (الصبر) محبوب بين البشر ومحمود في الديانات التوحيدية وهو صفة الأنبياء والأولياء والقديسين ، والسؤال : كيف هو الغضب الجلجامشي والأخيلي ؟ هل هو غضب بشري أم غضب حيواني ؟ أم تراه مختلف عنهما كلياً ؟ ، بعيداً عن هذه المقارنة يرى علماء النفس أن الإنسان في حالة الغضب المحض لا يعود هناك حياة داخلية خاصة ولا وجود للمحتجبات والأسرار ، كما أنه ليس هناك عالم داخلي مغلق ، داخل الإنسان يصير خارجاً ويبدو جلياً لمن حوله ، والغضب الخلاق طاقة تمنحها الآلهة حصراً للأبطال ، ويكون ردة فعل طبيعية للتيموس المطعون أو المنقوص والذي يضم ( العزة ، الشرف ، السخط ، الكبرياء ، الطاقات القتالية ، الغضب ، الانتقام ) وهي كما نرى ثيمات إنسانية ، والتضحية بها يعني بالتأكيد التخلي عن كل ما هو إنساني .
وليس جديداً القول بأن الإنسان كونه محكوم بالفيزيس وقوى الإستبداد الأرضية فهو على مدى التاريخ البشري كان يضحي مجبراً أو طائعاً بالتيموس كاملاً أو ببعضه ، وصار يرى في الأفراد الذين رفضوا التضحية بالتيموس أو ببعضه خلاصه ، ومن هنا برزت حاجة المجتمع لبطل يتصدى لقوى الشر الأرضية وللظواهر الفيزيسية الغامضة والمدمرة ، والسؤال : ما هي الشروط الواجب توافرها بالفرد لكي يكون بطلاً ؟
يكتشف قارئ ملحمتي الإلياذة وجلجامش أن آخيل وجلجامش ترعرعا في عالم مليء بالحرية بلا حدود أي أن غضبهما لم يكن ناتجاً عن ردة فعل على قيود فرضها عليهما العالم الأرضي ولم تكن لعنات السماء لتطالهما في البداية. بمعنى آخر كانا مدللين من قبل الآلهة ومطاعين من البشر المحيطين بهم فالأول ابن (زيوس ) إله الأولمب وأمه ثيطس ربة الينابيع والثاني ملك جبار ومطاع وهو ابن الهة وبشري وهذان البطلان كانا سعيدين سعادة مطلقة ويفعلان ما يشاءان قي فضائهما الأرضي دون أن يعترض على أفعالهما كائن بشري أو يقف في وجه جبروتهما قوة سماوية ، لقد عقد كل منهما اتفاقاً مع ( الفيزيس ) ، والأخير بقواه التي لا حدود لها يضعف أمام البطل (حسب الملحمتين ) .
وإذا سلمنا بأن الحرية والسعادة هما صفتان ملازمتان للبطل ، فالسؤال الذي يطرح نفسه : ما هو شرط بروز البطل ؟ .
إذا عدنا إلى ملحمة جلجامش سنجد أن بروز جلجامش كبطل بدأ بعد موت صديقه أنكيدو ، وستتكرر الحالة عند مقتل باتروكلس صديق آخيل على يد هكطور ، حيث يشعر البطلان أن الجانب التيموسي قد طعن وانتهك وبالتالي صار ناقصاً ، فمدتهما الآلهة بالغضب الخلاق ليهب كل منهما ويثأر لنفسه وبطريقته ، فالقوة اللامرئية ( الفيزيس ) التي قتلت أنكيدو لم تكن مادية أو ملموسة عند جلجامش فهام في الأرض يبحث عن الخلود ، لكنها كانت محسوسة عند آخيل فانتفض فيه الغضب وسارع إلى قتل هكطور والتمثيل به ، والصراخ في وجه الجميع وكأنه وحش شرس تم طعنه خلسة ، وبذلك عاد تيموسه وكأنه لم يمس ، وبعيداً عن نهاية البطلين فإن شرط بروزهما واحد وهو الغضب الخلاق وبدونه ما كانا بطلين فعالين ومتحررين من الفيزيس، ولكن ، هل كان جلجامش وآخيل بطلين لولا الآلهة ، ماذا لو ظل جلجامش يعربد في أور بلا أنكيدو الذي خلقته الأم ورمته في طريق ابنها ؟ وماذا لو انخرط آخيل في حرب كان يدرك أن ظاهرها من أجل امرأة هربت مع عشيقها ، وحقيقتها كانت من أجل ثروة طروادة ؟
هل نستطيع القول أن وجود البطل مرهون بالحرية بلا حدود والسعادة المطلقة التي لا تعكرها هموم أرضية عابرة ، ثم فجأة يجد البطل نفسه في مواجهة مع الفيزيس ، وهو هنا الموت ، الذي يسلم به البشر العاديين ، على أنه حقيقة يجب الانصياع لها والتسليم بها ، لكن الأمر مختلف مع البطلين ، لأنه طعنهما في الجانب التيموسي المتمثل بالعزة والكرامة والشرف والسخط والغرور والبطولة والقدرات القتالية ….. الخ، وهذه جميعها أدت إلى الغضب الخلاق ودفعت البطلين إلى القيام بفعل بطولي عظيم يخلدهما كخارقين تجاوزت طاقاتهما الخلاقة الحدود الأرضية ، والسؤال الذي يطرح نفسه : هل ثمة إمكانية في عالم اليوم وضمن الثقافة السائدة لخلق بطل شبيه بجلجامش وآخيل ؟ وكيف سيكون استقبال القراء لهكذا شخصية ؟ وما هو موقف رجال الدين ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجدر التنويه إلى أن التراث المسيحي نظر إلى التيموس على أنه أنانية وتجبر ، أما الفقه الإسلامي فيعتبر العزة والكبرياء والتعجرف والسخط خطايا رئيسية وهي من الكبائر التي يعاقب عليها مرتكبوها ، وليس جديداً القول أن الديانتين تحضان على التسليم للفيزيس والرضوخ للسلطة السياسية والدينية .
ومن هذا المنطلق يعتبر التيموس جانب شيطاني كونه أصل الثورة على الخالق والرفض الإرادي لمشيئته ، أما علم النفس الحديث فقد حاول استنتاج الظواهر التيموسية بالاعتماد على البعد الأيروتيكي ، في حين كان يجب دراستها بعيداً عن هذا المفهوم كونها تمس الجانب النفسي للبطل وبهذا يكون الأيروس قد ساهم إلى حدٍ كبير في تهميش الغضب الفردي والجماعي كونه وبحسب التحليل النفسي طاقة جنسية كامنة وحسب .
مقال جدير بالقراءة وفيه جهد كبير لمحاولة فهم غياب البطل عن الرواية العربية خاصة على شاكلة جلجامش وآخيل في عصرنا الحاضر..