إذا كان كتاب «الاستشراق» أول كتب المفكر الفلسطيني الموسوعي إدوارد سعيد، فإن آخر كتبه التي زادت على العشرين هو كتاب «تأملات حول المنفى». الأول صدر في العام 1978، أما الأخير فقد صدر في العام 2000 وفيه جمع نحو 50 مقالة كان كتبها خلال ثلاثة عقود ونيّف من الزمن (1967-1999).
تصدّر الكتابان وما بينهما كتاب «عن الأسلوب المتأخر- موسيقى وأدب عكس التيار» ترجمة فواز طرابلسي، وقد دوّن فيه السنوات الأولى من سيرته حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، وكتاب «خارج المكان» الذي صدر في العام 1999 وتمّ تعريبه في العام 2000، قائمة الأعمال الإبداعية لإدوارد سعيد الذي أصبح الشخصية العربية العالمية الأكثر إثارة للجدل والنقاش من جانب تيارات فكرية وثقافية مختلفة، وأوساط أكاديمية وسياسية متعدّدة، خصوصاً توزّع أعماله بين «النقد الأدبي»، و«الهويّة الثقافية»، و«القضية الفلسطينية»، و«الموسيقى»، وغيرها.
مفارقات
منذ أن أهداني الصديق الشاعر والصحفي شريف الربيعي في العام 1981 كتاب “الاستشراق” حتى أصبحت أفتش عن كل ما كتبه إدوارد سعيد. وصادف أن جاء لإلقاء محاضرة في لندن في تسعينيات القرن الماضي في الجمعية الجغرافية الملكية
RGS، وهو ما لفتت انتباهي إليه الصديقة كفاح البيّاتي التي كانت تعمل في هيئة الإذاعة البريطانيةBBC وقد حضرت محاضرته تلك ودهشت بطريقته في الإلقاء والمحاججة، وعلى هامشها إلتقيته.
تعكس شخصية إدوارد سعيد مفارقات عدّة، فبقدر ما هو فرد فإنه مثّل مجموعاً، لأنه عبّر عن ضمير، وإذا كان ولد في القدس العام 1935، فإنه ترعرع في القاهرة، ودرس في الإعدادية البريطانية، وقضى أوقاتاً في لبنان، وغادر إلى الولايات المتحدة، حين بلغ السادسة عشرة من عمره، التي حمل جواز سفرها لاحقاً، ليدرس في جامعة برينستون، ثم هارفرد، ومن ثم يشرع بالتدريس في العام 1963 في واحدة من أعرق الجامعات العالمية، وهي جامعة كولومبيا في نيويورك، وظل فيها حتى وافاه الأجل.
صدمة 5 حزيران /يونيو
تركت هزيمة 5 يونيو/ حزيران، العام 1967 جرحاً عميقاً في حياته، وهو ما عبّر عنه حين استحضر انتماءه وهويّته الفلسطينية العربية، حيث عاد بالذاكرة إلى عمليات الإجلاء والترانسفير الفلسطينية التي مارستها «إسرائيل» منذ قيامها، وما تعرّض له الشعب العربي الفلسطيني من استلاب دولي، وتواطؤات ألحقت الضرر البالغ بقضيته العادلة، وكان انصرف في تلك الفترة لكتابة مؤلفه المثير «الاستشراق» الذي لاقى نجاحاً منقطع النظير، وتمت ترجمته إلى ست وثلاثين لغة، وهو قراءة للخطاب الغربي عن «الشرق».
تعلّم سعيد من تناقضاته والواقع الذي عاش فيه كيف يفكّر إزاء المشروع الحضاري الفلسطيني والعربي المناهض للإمبريالية والصهيونية، وأدرك دور المثقف والأكاديمي، ولاسيّما الذي يعيش في الغرب، فهو فلسطيني يعيش في الشتات، وفي مدينة «نيويورك» الكوزموبوليتية، متعدّدة الأعراق، وهو في الوقت نفسه متعدّد الأصوات، وينطلق من تعدّدية داخلية، وتنوّع ذاتي، مثلما هو جزء من الهويّات الإنسانية المعاصرة المنفتحة، وغير المنغلقة.
جروح المنفى
إذا كانت جروح المنفى كثيرة ومعتّقة، فإن إيجابياته غير قليلة، وهذا يعتمد على قدرة المنفيّ على التفاعل مع محيطه، والتأثير فيه، بما يساعد على الانفتاح والتلاقح ما بين الثقافات، والحضارات، حيث تتجاور الخصوصيات في إطار من التنوّع والتواصل، والتداخل، وهو ما حاول إدوارد سعيد توظيفه إيجابياً بعد التوقف عنده، وفحصه، واستخدام شحناته الحيوية لمصلحته، وقد عكسه في كتبه، ومحاضراته، وأنشطته المختلفة، فالمنفيّ، والمهاجر، أو المهجّر، يجد نفسه في «اللّا مكان» إلى درجة يشعر أحياناً بأنه «عكس التيار»، ويعيش التهميش أحياناً، لكنه يعتبره امتيازاً وليس فداحة، لاسيّما حين يستمر في بحثه عن الحقيقة والعدالة.
الأخطر بالنسبة للحركة الصهيونية
يُعتبر إدوارد سعيد الأخطر بالنسبة للحركة الصهيونية في ما كتبه، وفي ما استطاع أن يلفت النظر إليه في أحد معاقلها الأساسيّة، ونعني به الولايات المتحدة، حيث اللوبي الصهيوني المتنفّذ، الذي عرف دوره منذ صدور كتابه الأول «الاستشراق» الذي لا يزال حاضراً حتى الآن على الرغم مضي ما يزيد على أربعة عقود من الزمان، خصوصاً أن كتاباته جاءت متناغمة مع القيم الإنسانية في الوقوف ضد الحرب، والتطهير العرقي، والعنصرية، والهجرة القسرية، وتمزيق البلدان. وبسبب مواقفه هذه تعرّض للتهديد، بل إن مكتبه أحرق، فضلاً عن اتهاماته بأنه «عدو للساميّة».
أهم شهادات العصر
من يقرأ كتابه «خارج المكان» سيدرك أنه أمام إحدى أهم شهادات العصر، والأمر لا يتعلق بأهميته، أو بأسلوبه الشائق والممتع أو بالسرد الدرامي أو حتى بسبب مضمونه، إنما لما سلّط فيه الضوء على خمول الضمير الإنساني في لحظة فارقة من لحظات التاريخ الأشد مأساوية، خصوصاً أنه استطاع أن يخاطب العقل (الآخر) ويتحدّث عن تجربة اقتلاع شعب من أرضه، ورميه خارج المكان في محاولة لمحو ذاكرته، وهويّته، ومصادرة تاريخه ومستقبله.
و«خارج المكان» يمثّل جسراً بين ماضٍ لا يمكن أن يُنسى، وبين حاضر لا يمكن أن يدوم، أما داخله فهو تمسك بالهويّة والرمز، وبين الخارج والداخل صور، وانعكاسات، وأحداث، ووقائع، ومؤامرات، وآمال، وحروب، ولكن الذاكرة تظلّ قائمة كأنها تعيش واقعاً هو استمرار بحثها عن هوّية، ومكان، وأرض، ووطن مسلوب. وتتوحّد الهويّة أحياناً مع رمزية المكان في إطار هارموني متناسق، يحاول المغتصب اغتياله وهو اغتيال داخل المكان، مثلما يمثّل الترحيل والإجلاء والاغتيال خارج المكان، بالتجريف، والإبعاد، وقطع الجذور الأولى، ومصادرة الحقوق بالاستيطان، والإلغاء.
الهويّة وشجرة الزيتون والمكان
الهُويّة وشجرة الزيتون والمكان، ثلاثية تجسّد المأساة الفلسطينية المستمرة، فالهُوّية يُراد طمسها بكل الوسائل. والزيتون تجري عمليات حثيثة لتجريفه لأنه يمثل رمزية خاصة لدى الفلسطينيين، وقد حمل الرئيس ياسر عرفات غصناً للزيتون وهو يدخل إلى الأمم المتحدة، والمكان يمثّل جذر الفلسطينيين، حيث جرت وتجري محاولات على قدم وساق لإجلائهم من مكانهم الطبيعي وهو أرضهم وهم سكان البلاد الأصليون، لذلك يتمسّكون بالقرار 194 لعام 1948 الخاص بحق العودة، إضافة إلى الحق في تقرير المصير ضمن دولة عاصمتها القدس.
وإذا كان استهداف هذه الثلاثية باحتلال الأرض والسوق والعمل منذ العشرينيات، فإنها اتخذت شكل مصادرة الأرض وإجلاء سكانها الأصليين ومحاولة اقتلاع ما تبقى منهم، لاسيّما بمشروع “الدولة اليهودية النقية”، في محاولة لإرغام العرب على خيارات أبسطها يكاد يكون مستحيلا.