المتحول رقم-17 من المجموعة القصصية ( المتحولون) دعوة لكتاب السيناريو و المسرح و لمن يعشق الفنتازيا السردية
#الشبكة_مباشر_لندن_الروائية وفاء عبدالرزاق
هو المُنتظِرُ والمُنتظَرُ ، يُصِرُّ على أسنانِه كُلَّما تشابكتِ الأشياءُ ، ليعرِفَ أيّهم هو .
يضعُ قُبَّعتَهُ على الطاوِلةِ ، يذهب إلى مرآتِه ، ويَصدحُ بالغِناءِ ،عِطرٌ غريبٌ يمرُّ عليه ، ولا أحدَ غيرَه .. يرفع رأسَه عالياً ، يجد رأسه مشنوقاً .. يهتمُّ لفراغاتٍ بين رقبتِه وحبلِ المَشنقةِ ، يُشعِل مِصباح الغُرفةِ ، فيُصفّق الجمهور .
لن يَسمعَ أحداً ما يقول له أيّ شَيءٍ ، لن يكترِث به أحدٌ إطلاقاً .. الجالسون على المصاطب يُشبهونُه ، لا بل كُلُّهم هو .
يرتدِي بِنطالاً بُنيَّاً , وقميصاً أبيضَ ، يَسمعُ أحاديثَ عنِ الذينَ ماتوا يومَ أمسِ ، والذين قبلَهُ ، وحقَّقوا برسمِ الشَّكل الذي سيليهم ، رسموا جميعاً وجهَهُ .
اختلف المُخرِج عن المَشهدِ الأوَّلِ ، واختلف المُمثلون وتضاءلتِ الإنارة قليلاً مِن زوايا المسرحِ .
النَصُّ المكتوبُ ، بعد خمس سنواتٍ مِن النصِّ الأوَّل ، كان بِخط اليد أيضاً .
دخلَ مُمثـِّلٌ وكأنَّه يُكلّمُ أحداً قُربَهُ بينما لا أحدَ :
– صدِّقنِي ، هو لا يقدِر أن يطهو لحمَ جارِه ، عِلماً بأنَّ القِدر على النَّار، ولابدَّ أنْ تُصدِّقَ بأنَّهُ الطّاهِي والمطهو ، والتتبيلة والمَلحُ .
خرجَ المُمثّلُ حين دخلَ آخرٌ بنِفسِ الشَّكلِ ، الطُّولِ ، لونُ البشرةِ ، الشَّعرِ .
مِن حُسن الحظِّ أنَّهُ يحمِلُ في جيبِهِ مِرآتَه القديمةَ ، نظر إلى المُمثـِّلِ الآخر ، وجد ما أخافَهُ .. وجهَه ، لونَه ، طولَه ، وتجاعيدَ الوجهِ ..
كيف وقد استهلك المرآةَ حتَّى باتتْ كوجهِ عجوزٍ !!
لا بد أنَّها شاختْ فِعلاً ، لذلك تعكسه هُناك وتعكِسهم هُنا .
أمسكَ حقيبتَه ، جوازَ سفرِه وغادرَ ، لا فرقَ طالما هو الظِلُّ في كُلِّ مكان ٍ، لِذا دخل مِن الباب الثاني ودفع السِّتارة بقوةٍ .
الليل عادِيٌّ ، وطويل ، مِن السَّادسةِ مساءً حتَّى الثَّانيةَ عشرةَ ، ومِن الثانيةَ عشرةَ حتَّى السَّادسةِ صباحاً ، هذه دورتُه اليوميَّة ، إذ لا صباح يلي ذلك . لا فراغ بين السَّاعات ، اختلافاً لحبل المشنقةِ .
رمَى حقيبتَه ودخل إلى المطبخ ، القهوة منثورةٌ على الحوائط كُلّها ، لونُ المطبخ بأوانيهِ كُلّها لونٌ بُنيٌّ محروقٌ .. هو يحب القهوة المحروقة ، فأعطته الحياةُ ما أَحَبَّ .
أخذَ ملزمةَ النصِّ المكتوبِ ليحفظَ دورَه الجديد ، فالحقيبةُ تُشير إلى مُغادرتِه المكان ودخوله لمكانٍ آخرَ ، إنَّما النصُّ ، محذوفةٌ مِنه كُلُّ الأمكنةِ .
بعد السَّطر الأوَّلِ خَشِيَ أنْ يسأل المُمثـِّلَ : مَن أنتَ ؟ كَي لا تكون الإجابةُ : أنتَ .
نظرَ إلى عينَي المُمثـِّلِ ، اقتربَ مِن أنفاسِه ، تذكَّرَ أنَّهُ يُحبُّ الهالَ ، حين اشتمَّ أنفاسَ الهالِ مِن المُمثـِّلِ .
لم يجد تقليداً أعمَى ، بل أكثرَ مِنَ الأعمَى، لايدرِي ؛ هل زوجتُه حين اشترتْ له هذا القميصَ والبِنطالَ ، اشترتْ آخرَ لمُمثـِّلِ النَّصِّ الجديدِ ؟!!
الكاتب مجهول الهويةِ ، إذاً كيف عرِفَ الكاتبُ بلون قميصِه ، حتَّى الزِّرِّ المَقطوعِ ؟
وكيف عرف هذا الظلام المُتواصل في ليلِه ، لهُ ليلهُ الخاصُّ مِن السَّادسةِ مساءً إلى الثانية عشرة ، ومِن الثانية عشرة حتَّى السَّادسةِ صباحاً هكذا دورتُه هو .
الليلُ حرٌّ ، حين اختاره لنَصبِ فخ ٍّمُظلِمٍ لهُ ، لأنَّهُ بِكُلِّ بساطةٍ يُحبُّ القهوةَ المحروقةَ .
لكِنَّ الكاتِبَ ليس حُراً ، سرقَ شكلَه وهَيْأتَه .
عشر سنواتٍ مرَّتْ ، بعد التي قبلها ، و هو يدور، بين المُخرج ، والكاتِب والمسرحِ و الليلِ .
ارتدَى قُبَّعةً بيضاءَ بعد أنْ أشعل شمعةً صغيرةً ، نظر إلى حائطِ المسرحِ الخَلفيِّ ، فهالَهُ منظرُ ظِلّهِ الذي اتَّسع حتَّى ملأ الحائط كُلَّه ، ماسِكاً قُبَّعةً بيضاءَ مُرتشِفاً قهوةً مُرَّةً .
أهمل الأشياء كُلَّها حين فـُتِحتِ السِّتارةُ ، فقد تحوَّلَ كُلُّ شيءٍ , عِلماً بأنَّهُ لم يتحوَّل ، لكنَّه استمَعَ لصوت التَّصفيقِ القادمِ مِن مُتفرِّجٍ في آخرِ القاعةِ .
مُنذُ عشرِينَ سنةٍ وهو ذاتُه في الكُرسيِّ ذاتِه يُصفـِّقُ له بحرارةٍ .
رفع المُتفرِّجُ قُبَّعتَهُ البيضاءَ فسقط فِنجانُ القهوةِ المُرَّةِ على الأرضِ .