من أوراق نوري عبد الرزّاق المثقّف الكوني و بداياته الوطنية
#الشبكة_مباشر_بيروت_د. عبد الحسين شعبان
كنت قد أشرت في سردياتي المنشورة وغير المنشورة إلى الدور الفكري والثقافي الذي لعبه نوري عبد الرزاق على صعيد الحركة الشيوعية، باعتباره مثقفًا تجديديًا تنويريًا حداثيًا، تخطّى حدود بلاده إلى الساحة الدولية، ولا شكّ أن تأثيره امتدّ إليها من خلال المواقع المتميّزة التي احتلّها، حيث شغل موقع الأمين العام لاتحاد الطلّاب العالمي منذ العام 1960 ولغاية العام 1968، وذلك بعد تولّيه رئاسة اتحاد الشبيبة الديمقراطي في العراق 1959، ثمّ تولّيه منصب الأمين العام لمنظمة التضامن الأفرو- آسيوي، والتي ظلّ على رأسها لنحو ثلاثة عقود من الزمن، وخلال عمله في الحقل الدولي، مُنح أوسمة عديدة أبرزها وسام لينين في العام 1974.
مؤخرًا رحل نوري عبد الرزّاق، وترك أوراقه لدينا، وهي أوراق ثمينة وغنيّة، بقيتُ أنقّب فيها. وعلى الرغم من أنها مشروع مذكّرات لم يكتمل، حيث كانت أوراقًا متناثرة وغير متّسقة، لذلك حاولت استكمالها معه بالحوارات واللقاءات، وما اختزنته من علاقة صداقة بينه وبيني دامت ما يزيد عن 5 عقود من الزمن، فضلًا عن مواقف مشتركة ومؤتمرات وعمل تنظيمي في الثمانينيات في حركة المنبر التي أسّسناها، وكان منسقّها العام، تمييزًا لموقفنا عن الموقف الرسمي لإدارة الحزب الشيوعي، لاسيّما في موضوع الحرب العراقيّة – الإيرانيّة.
ولم أخفِ إعجابي بنوري عبد الرزّاق منذ أن تعرّفتُ عليه بشكل مباشر في بغداد العام 1969، واتّفقت معه في الكثير من القضايا واختلفت معه في بعضها، علمًا بأنّ اختلافاتنا لم تُفسد في الودِّ قضيّة كما يقال، بل أنّها عمّقت العلاقة الشخصيّة مع مرور الأيام.
النشأة الأولى
سأتوقّف في هذا المدخل عند البدايات الوطنية، وهي تتضمّن النشأة الأولى لنوري ورؤيته للعمل في إطار الحركة الشيوعية وعمله مع اتّحاد الطلبة، فقد شهدت فترة فتوّته كما يروي صعود اليسار العربي، ولاسيّما في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي ترافقت مع هزيمة الفاشيّة وانتشار الأفكار الاشتراكيّة، خصوصًا الانتصار الذي حقّقه الاتحاد السوفييتي، وهكذا بدأ الوعي الأوّل لنوري يتعزّز في ظلّ انتعاش الحياة الحزبيّة في العام 1946 بعد مجيء وزارة توفيق السويدي، حيث أجاز وزير الداخليّة سعد صالح، 5 أحزاب سياسيّة هي: الحزب الوطني الديمقراطي الذي ترأّسه كامل الجادرجي وحزب الاستقلال (قومي عربي) الذي ترأسه محمد مهدي كبّة وحزب الاتحاد الوطني (يساري – اشتراكي) الذي ترأسه عبد الفتاح ابراهيم وحزب الشعب (حزب يساري يدعو لممارسة النضال العلني)، وترأسه عزيز شريف وحزب الأحرار (حزب وسطي) وترأسه الزعيم الوطني سعد صالح (بعد استقالة الوزارة).
يشير نوري في أوراقه إلى المكتبات المتخصّصة لبيع الكتب الماركسيّة مثل “مكتبة الطريق” و”مكتبة بغداد”، و”مكتبة مكنزي”، إضافة إلى صدور “رسائل التحرّر” التي كان يشرف عليها فهد، ومنها كتاب الجبهة الوطنية الذي كتبه حسين الشبيبي (صارم) والذي كتب مقدّمته (فهد)، وقد أُعدم الشبيبي وزكي بسيم مع فهد في العام 1949.
يتوقّف نوري عند أهمية النزعة الوطنية الأولى لدى الشيوعيّين، حيث تربّى فهد في كنف الحزب الوطني بقيادة محمد جعفر أبو التمن، ثمَّ تحوّل إلى الحزب الشيوعي، ومثل هذا التأكيد ينطوي على فكرة طغت لاحقًا، وأثّرت بشكل سلبي على الأحزاب الشيوعيّة وهي الانصياع إلى المركز الأُممي.
ويذهب نوري إلى القول: إنّ الأممية لا ينبغي أن تتعارض مع الوطنية، وهو ما أكّدته الأحزاب الشيوعيّة في وثائق اجتماعاتها في موسكو في العام 1960، على الرغم من انثلامات في هذا الموقف، واستمرار محاولات فرض الهيمنة والتسيّد من جانب القوى المتنفّذة، والاستتباع والخضوع من جانب الحركات والأحزاب الصغيرة. وقد أجاب نوري على سؤال وجّهته له “مجلة الغد” بصفته ناطقًا رسميًا باسم حركة المنبر في العام 1987، بقوله: أن الحزب الشيوعي مسؤول أمام طبقته العاملة وشعبه، أولًا وقبل كلّ شيء، ويضيف: أن تهمة التبعية التي كانت الحركة القومية في الخمسينيات تطلقها على الأحزاب الشيوعية أصبح بعضها متّهمًا بها الآن.
اتّحاد الطلبة
يتحدّث نوري عن البدايات لتشكيل اتحاد طلبة المعاهد العالية، حيث تقدّم عدداً منهم للحصول على ترخيص قانوني وفقاً لنظام الجمعيات، وبدلاً من ذلك فقد اعتقل ستّة من الممثّلين. ويقول: تكوّنت نوادٍ طلابيّة في أعوام 1947 و1948، الأمر الذي دفع الحكومة لإغلاقها. وما أن هلَّ شهر يناير/كانون الثاني 1948، حتى بدأ التململ ثمّ التحرّك وصولاً إلى الغليان ضدّ معاهدة بورتسموث (جبر – بيفن)، ويعتبر هذا التحرّك الطلابي هو ألمع صفحة في تاريخ الطلبة العراقيين. ثم جرت انتخابات في كليات وبعض مدارس العراق، وانبثقت لجنة تحضيرية وتمت الدعوة إلى عقد مؤتمر عام، وهو الذي انعقد في ساحة السباع في 14 نيسان/ابريل 1948 وشارك في الافتتاح وفقاً لنوري 4 آلاف طالب، وحيّاه عمال بغداد بتظاهرة رفعت لافتة تقول “الطبقة العاملة تُحيي مؤتمر الطلاب”، وألقى الجواهري الكبير قصيدة مطلعها “يوم الشهيد تحيّة وسلام… بك والنضال تؤرّخ الأعوام”.
وهكذا تأسّس اتحد الطلبة العراقي العام، وكان نوري أحد المساهمين في العمل الطلابي وكعضو قاعدي في الحزب الشيوعي. وعند تعرض الاتحاد إلى حملة اعتقالات، قام نوري بمبادرة لإعادة تشكيله وسلّم شبكة الاتصالات التي أجراها إلى الحزب الشيوعي وإلى مسؤوله حمدي أيوب، خصوصًا حين سافر للدراسة في إنكلترا إثر تعرّضه للاعتقال والتعذيب، وهو الاعتقال الثاني الذي دام 35 يومًا، لكن نشاطه الاتحادي استمرّ في بريطانيا. وهناك عمل في جمعية الطلبة العراقيين التي نشطت منذ مطلع الخمسينيات.
عضوية الحزب الشيوعي
وعن انتمائه للحزب الشيوعي يقول: أصبحت عضواً منظماً منذ آب/أغسطس 1948، وثمّة مفارقة فإن في هذا الشهر يصادف عيد ميلاد نوري (21 آب/أغسطس) وكنّا نمزح معه حول الاحتفال بعيد ميلاده أم يوم قبوله عضواً في الحزب. وكنت أقول له استلمت أنا أول رسالة غرامية في يوم استلامي بطاقة عضوية الحزب.
وكان من أولى نشاطاته هو العريضة الخاصة بنداء ستوكهولم، حيث اخترقت الشرطة تظاهرة كان يُزمع الحزب القيام بها، ولُوحق في البساتين لعدّة ساعات مع أحد أقاربه، ثمّ جرى اعتقاله وعومل بقسوة شديدة. وقام والده (عبد الرزّاق حسين)، الضابط المعروف، بالاتصال بدائرة التحقيقات الجنائية لإطلاق سراحه. ويتساءل نوري لماذا أصرّ المعنيّون على إخراج تظاهرة، لاسيّما بعد إعدام عدس، الأمر الذي أثار الالتباس، وروّج بعض القوميين أن التظاهرة “صهيونيّة – شيوعية”. وهكذا شنّت السلطات حملة اعتقالات توّجت بإعدام الرفيق فهد بعد أن كان حكم الإعدام قد تمّ تخفيضه إلى المؤبّد، فأُعيدت المحاكمة وصدر الحكم بالإعدام، وتمّ تنفيذه في مسرحية استغرقت أقلّ من شهرين (14 شباط / فبراير 1949) مع الرفاق حسين الشبيبي (صارم) وزكي بسيم (حازم) ويهوذا صدّيق.