يمضي الوقت بطيئا بينما تراقب وفاء ساعة الجدار، وهذا الصوت في أعماقها يهمس بإلحاح شديد: شيء ما سيحدث لأمي، لا أعرف ماذا سيحدث ولكن روحي تتعذب هذه الليلة. فاليوم كانت نظراتها
غريبة وكأنها تخبرني قائلة: هذه آخر مرة أراك فيها يا ابنتي.
استمرت وفاء تكلّم نفسها: كانت أمي جالسة خلف السائق بينما ترجلت أنا من السيارة التي وقفت أمام منزلي وآخر كلماتي لها كانت: لا تخافي يا أمي لن يحدث لك شيء، مجرد إجراء بسيط
لنتأكد من تشخيص الطبيب. ثم داعبتها… ولكنها لم تودعها وكأن شيء بداخلها يرفض الوداع. وقبل أن تتحرك السيارة وقعت عيناها على أمها، فوجدتها تحدّق فيها بشغف كبير لم تشعر به من قبل
ثم بقيت تلتفت نحوها حتى مضت السيارة. وما تزال تنظر إليها بلهفة شديدة. نظرت إليها وفاء بذهول غريب وشعرت بأحاسيس غير مريحة وقتها، ثم دخلت البيت وهي حزينة وخائفة.
ما تزال ساعة الجدار تُصدر صوتاً رتيباً وبدأت بالبكاء، غداً في الصباح الباكر ستغادر بغداد كما تعودت في كل إجازة صيفية. فقد أخذ منها العام الدراسي جهداً كبيراً في التدريس ومتابعة بحوث الطلبة ومسؤوليات أخرى. لم تعد تحتمل البقاء في نفس المكان، ولكنها هذه المرة كانت حائرة وقلبها يتمزّق لأسباب غير مفهومة.
فكّرت مع نفسها: أمي بخير أيام قليلة وتصلني نتائج التشخيص. والطبيب أخبرني أن لا شيء يستدعي القلق! ربما تحتاج لاجراء عملية جراحية لو اضطررنا لذلك، سأكون معها في الوقت المناسب كعادتي دائما فأنا لم اتأخر يوما عن أمي….
الساعة بدأت تقترب من الرابعة صباحاً والتوتر أرهقها كثيراً، عجباً لاشيء يبدو عقلانيّاً في الموضوع هل هذه المرة الأولى التي أسافر فيها؟! ولكنني أحتاج أن أراها، خطوات بيني وبينها ولكن الوقت متاخر ولا أستطيع الذهاب إليها طالما أن الذين معها لا يكلموني. هل يعقل أن أذهب في هذه الساعة المتاخرة وأطرق بابهم لا…….. لا أستطيع.
لماذا أمي ليست معي؟ مالذي فعلته أنا ليحرمني القدر منها؟! فبيتي الذي استقبلت فيه الجميع وأغدقت عليهم بمحبتي، وكان هذا جزائي منهم. وهذا الموضوع طالما أزعجني والجحود يزعجني أكثر وكأنّي أعيش في غابة من الدسائس وقلّة الوفاء.
بقِيَت وفاء على هذا الحال حتى الصباح ثم خرجت من بيتها إلى المطار. وضعت نظارتها السوداء لتخفي تورّم جفنيها بسبب البكاء والسهر، ثم بقيت تتلفّت إلى منطقتها التي بدأت تختفي.
تكلّمت وفاء: لِمَ أشعر بأنَّ روحاً تُطاردني وأسمعُ صوتاً يأمرني بالعودة.
كلمت أمها في المطار لتطمئن عليها: سأعود بعد سبعة أيام أو عشرة ريثما تظهر نتائج التحليل.
:لا تقلقي! اعتني بنفسك وببناتك.
:نعم أمي سنتواصل وأراكِ على خير.
الرحلة لم تكن مريحة على أيّة حال، لم تُصدّق وفاء حدَسَها وأصغت لصوت العقل فقط أم أنه خوفها القديم من الفقد هو الذي أخرس صوت إحساسها عندما حسبته مجرد أوهام.
كانت تسير في أسواق اسطنبول وعيناها لا ترى سوى اللون الأسود فابتاعت ملابس سوداء. تبدو كل الأماكن حزينة ولا يروقها التسوّق أو الذهاب للتنزّه. ولكن وجود عائلتها معها شجّعها على تجاهل مزاجها السيء.
شعرت في أحد الأيام بوعكة صحية وحمى بسبب الزكام، فقضت يومها نائمة في الفراش. كانت تريد أن تتعافى سريعاً لكي تعود، فهي تحتاج صحتها لترافق أمها في المشفى. كانت وحدها في البيت عندما جاءها اتصال في غير حينه يخبرها بأن أمها مصابة بمرض خبيث وعليها العودة. نهضت من فراشها وكأن السرير أطبق عليها وجلست في شرفة المنزل صامتة، كان المطر ينهمر بغزارة ودموعها أيضا لم تقلّ غزارة وهي تقول بصوت ضعيف: هل ستموت أمي؟!
حجزوا للعودة وسينقضي يومان حتى موعد عودتهم، وكتمت وفاء إحساسها بالمرارة وهي تقنع أمها بعكس الحقيقة: لا تخافي مجرد جراحة بسيطة للإطمئنان، كلّ شيء سيكون على ما يرام. وكانت تتصنع الضحكات لتتقن الدور أكثر.
بدت الطائرة وكأنها معلقة في السماء لا تتحرك، والحديث مع النفس لا يتوقف: متى ستنتهي هذا الرحلة المشؤومة ليتني ماغادرت بيتي وما سافرت. ثمَّ تأخر الوقت كثيراً في المطار وانتظار الحقائب بدأ يزعجها، هكذا أصبح البلد متأخرا في كلِّ شيء وكلّ شيء فيه أصبح يدعو للتوتّر والإنزعاج. ثم مرَّ وقت طويل حتى وصلوا السيارة التي ستأخذهم إلى بيتهم أخيراً.
شَعَرت بتعبٍ شديد لأنها لم تنم مؤخّراً إلّا قليلاً جداً، فأخذتها غفوة قصيرة في سيارة الأجرة. عندها رنَّ جرس الهاتف فأجابت بين الصحوة والنوم: ماذا!!! سمعت بكاء وصوت عالي يخبرها: وفاااء……. أمي ماتت………
الوقت الذي مَرَّ بطيئاً في المطار كلّفَها غالياً فقد أخذ الموت غاليتها قبل أن تصل إليها بساعةٍ واحدة! وصلت إلى بيت أختها ولكن أمها لم تكن موجودة فيه لتستقبلها. ثم عادت إلى بيتها وانتظرت حتى وصلت أمها ولكن جسد بلا حركة أو كلام. جلست قربها ولم تستطع البكاء، قبّلت خدها البارد الرقيق وهمست لها: أعرف وصيّتك وسأفعل ياأمي….