جماليات السخرية في المجموعة القصصية _رياح عائلة كشنوف _للقاص الأردني بيدر جهاد أنفال كاظم
الشبكة مباشر .....العراق
جماليات السخرية في المجموعة القصصية _رياح عائلة كشنوف _للقاص الأردني بيدر جهاد
أنفال كاظم
في المجموعة القصصية رياح عائلة كشنوف للقاص الأردني بيدر جهاد والصادرة عن دار فضاءات للطباعة والنشر والتوزيع/الأردن ٢٠٢٢ ،اعتمد القاص على السخرية وأدواتها كالفكاهة والتهكم والضحك بأنواعه كوسيلة للتعبير عن مكنوناته الفكرية والفلسفية والنفسية وما يشعر به اتجاه ما حوله من المجتمع ، و لإنتقاد مجموعة من الظواهر الأجتماعية والسياسية ، وتسليط الضوء عليها محاولاً وضع الحلول لها وإصلاح المجتمع وقمع الفساد السياسي ونصرة المظلوم ونبذ الفقر والفاقة والحروب الطاحنة وبراثنها المقيتة اتجاه الشعوب ،والكثير من الحالات الإنسانية التي تصب في قالب واحد الا وهو السخرية ! وكما ذكر نعمان محمد امين طه ( السخرية طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص الفاظاً تقلب المعنى الى ما يقصده المتكلم حقيقة، وهي صورة من صور الفكاهة تعرض السلوك المعوج او الأخطاء التي ان فطن إليها وعرفها الفنان موهوب تمام المعرفة واحسن عرضها تكون حينئذ في يده سلاحاً مميتاً) ، فقد كانت هذه الحالات و الظواهر بكل اشكالها وانواعها حافزاً و دافعاً وراء كتابة القاص لقصصه وتحديداً بهذا الأسلوب الساخر ! مصوراً ما يشعر به القارئ من هواجس وقلق وارهاصات اتجاه الأوضاع والحياة والمجتمع التي تواجهه بصورة مؤلمة كأنه مرآة تعكس ما بداخله من صراعات نفسية ، ومن الجدير بالذكر فأن الكاتب اجتهد في استخدام السخرية كسلاح فتاك بين يديه يتصدى من خلاله للعديد من الجوانب الحياتية والإنسانية التي تستحق تسليط الضوء عليها بغية لفت الانتباه لها واصلاحها او مجرد المحاولة !، وبرع في التلاعب بها فتارة يثير دهشة القارئ واستغرابه بمفارقاته التي نسجها بدقة من خيوط الفكاهه وتارة يثير في نفسه الاستهجان اتجاه الكثير من الصور التي رسمها بفرشاة عبثية بحتة! هدفها الأساسي هو النقد اللاذع ، وكما ذكر بديع الدكتور ايميل يعقوب والدكتور ميشال عاصي (يقصد بالسخرية قناع يرتديه الساخر ليوضح صورة ما ،ومن يحاول إزاحة القناع والوصول الى الفكرة المسخور منها فهو بذلك موهوب ! وقد تميزت السخرية بعدة طرف وتنوعت اساليبها وهذا ما يجعلها تتغير من حالة الى أخرى ؟ما دفع البعض بأعطائها صفة الافعى التي تتلون من وضع الى اخر ، فالسخرية لينة تشبه الافعى والساخر افعى ليس له صوت حين يسير او يسخر ولكنه يقتل بسخريته!) ،تتكون هذه المجموعة القصصية (رياح عائلة كشنوف ) من سبعة عشر قصة لها قاسم مشترك اوحد كان له حضوراً قوياً الا وهو (السخرية) التي برز بأنواعها المختلفة والتي تتنوع بتعدد دلالاتها ومعانيها والتي تنطوي على ؛
_السخرية الانتقادية :كما وصفها حسين القباني (تهدف الى السخر من الظواهر المدانة في الحياة ونقدها من خلال افراد او جماعة سواء كانت هذه الظواهر اجتماعية ام سياسية او أدبية ام سلوكية شخصانية ومهما كانت السخرية الانتقادية هائلة في بعض النماذج فهي عملية تأديب مؤلمة ومخزية لانها ما اتسمت بسمة النقد الا لتخزي وتؤلم لهذا لابد ان يشعر الشخص المسخور منه بالخزي والألم)
_السخرية العقلية : موقفها فكري بحت ولا ينتج عنها الأذى الا اذا كانت تهدف اليه بالأساس وكما ذكر شمس واقف زادي (هذه السخرية لم تكن عن دافع شخصي او حقد او ضغينة وانما نابعة من فلسفة خاصة قوامها العطف على الناس وتوجيههم الى عيوبهم كي يصلحوها واساسها النقاش العلمي الفلسفي الرصين)
_السخرية الفكاهية : كما وصفها نزار عبدالله خليل ضمور (وهي سخرية التنذر والاضحاك والتفكه ترويحاً عن النفوس المتعبة وتنفيساً عن الآمها وليس لها بعد هذا قصد اخر وقد اكد هذا الضرب قيمته من السخرية من حياة الناس وضرورة تذوق النفس الفرح والهزل اذا ما علق فيها الجد وامرضتها متاعب الحياة)
_السخرية الاجتماعية : كما وصفها ايضاً نزار عبدالله خليل ضمور (نقد العيوب التي تهدد المجتمع بالجمود والتخلف كالبخل والشخ والحسد)
_السخرية السياسية : كما وصفها نفين محمد شاكر عمرو(نوع إيجابي من الهجاء تجاوز حدود الفردية الضيقة حيث كان الشعراء يسخرون من البيئة السياسية وينعون عليها جهلها او تجاهلها لأمور العامة)
_السخرية الثقافية : ذكر خضر ناصف (ان السخرية ظاهرة غير مقتصرة على مجال محدد فهي مما يقول ميويك في كل مكان :تراجيدية ،كوميدية ،تداولية ،فلسفية ،درامية ،شفهية ،ساذجة بسيطة او مركبة ، بلاغية ،فولتيرية ،سقراطية)
فقصة (موسيقى صافيناز هانم) جسدت مفارقة مثيرة للسخرية وتتسم الى حدٍ ما بالغرائبية! فالثورة التي عزم سكان المبنى القيام بها ضد العجوز القديمة صاحبة المبنى والتي تقف على مشارف الثمانينيات من العمر احتجاجاً على مقطوعتها الموسيقية التي تتكرر مراراً على مسامعهم حتى سئم منها الجميع وحفظها عن ظهر قلب وتسببت لهم بالازعاج وتجمهرهم امام باب شقتها الموصد لا تتناسب مع ما استقبلتهم به تلك العجوز وكعكتها المتعفنة كما لو كانت تنتظر.
احداً ليحتفل بها او ربما هي تحتفل به وتعلن امامه المفاجئة قبل موتها على كرسيها! يتخلل القصة ابعاد إنسانية واجتماعية من نوع يحاكي ذهن القارئ وربما تنبهه على الكثير من التفاصيل اليومية!
اما في قصة (عائلة) فالتوائم الثلاثة للسيد زكريا العقيم !! تركوا بحواراتهم أبواب التأويل مشرعة على مصراعيها امام القارئ ليفسر ما وراء السطور او ربما يحاول مجرد محاولة لفك تلك الشفرات! (جريس و دحبور و داود) لا يتشابهون الا في أعمارهم!ولعل صوت داود المتسائل عن كيفية حدوث مثل هذا الامر بعيداً عن لا ابالية اخوانه الذين لا يهمهم الا الاكل والشرب، و خوف السيد زكريا بتوجسه اتجاه زوجته بقوله ( كلانا كان يعلم ان هذا اليوم آت لامحالة لقد هربنا منه كثيراً لكن لاتخافي سنظل عائلة جميلة!) ، له علاقة وثيقة بالتنويه المقدم مسبقاً من قبل القاص في بداية القصة بأن السيد زكريا عقيم وله ثلاثة توائم! وفي قصة (ممتلئ بالفراغ) تتجسد فيها كل معاني النكران ونبذ الذات وتعريتها اما رتابة الأيام والملل المحدق بها مع تراكم الأعوام بلا هدف او امل منشود ! بوصفها اقذع الاوصاف متجرداً ومتبرئاً منها ومن الضجيج والخراب المسببة له في نفسه كما وصفها (انانية و بشعة ولئيمة وحسودة وجشعة لحد القتل) ،واستخدام سلسلة من الامنيات العبثية المليئة بالمفارقات الساخرة (اريد ان أكون حقيراً مقرفاً يدخن سيجارة بعد كل شيء ، متسولاً يتعرقل بالرصيف ليصطدم برجل رأسمالي ، ضريرا جلاداً طويلاً لا يتعب ويحب عمله، عاهراً او زانية تفكر في ابنها اكثر من الذين ينامون معها في السرير كل نصف ساعة ، مقامراً دنيئاً يخسر ويربح ويفكر بالمراهنة بكل شيء متاح، شيطاناً نبيلاً ، سأحب ان أعيش يوماً كحذاء او ان أكون ملابس داخلية لعارضة أزياء بارعة الجمال) وغيرها من الصور التي لامن جدوى منها سوى التخلص من مواجهة ذاته (أي شيء عدا كوني انا لقد مللت من كوني نفسي أربعين عاماً…)، وفي قصة (كرسي خشبي قديم) استخدم تقنية أنسنة الجمادات بطريقة ساخرة فمنح الكرسي الخشبي من المشاعر والاحاسيس والصوت ما يتيح له الإفصاح عن هواجسه وافكاره مثال: (لا عليك لن الومك انت لا علاقة لك فلست وحدك من يراني مجنوناً وكاذباً لا اتعدى كوني مجرد كرسي خشب قديم!) ،وفي قصة (نتاليزا) تتجلى صور السخرية بأبهى صورها بداية من سخرية مازن المحرر الصحفي من الاديب الرديئ أستاذ بدين و صاحب حذاء المليون ليرة كما يصفه الى تضرع هذا الاديب للمحرر متوسلاً به ان يعمل معه بقوله (سنعاملك كشخص حكيم لا بل جزار طاغية فقط كن معنا)!! وصولاً الى زوجته نتاليزا البشعة بعقدها وحقدها الدفين وكراهيتها التي تضمرها الى الموناليزا والذي يحاول زوجها جاهداً رغم قبحها ان يمنحها حياة اقرب ماتكون الى الجنة! وتحقيق حلمها وارضاء غرورها بطلب من رسام لرسم حبيبته البشعة تيمنًا بالموناليزا! ، وفي قصتي (رهانات غير صائبة ) و (رياح عائلة كشنوف) يظهر الكاتب نقده اللاذع للحكومات والسلطات ويطلق العنان لقلمه بتعريتها فهي التي اورثت الرعب وبثت الخوف في قلوب المواطنين حتى اصبح الفعل العادي الذي يقومون به غير عادي واجرام بحق حكوماتهم الفاسدة…وقد تجسد الارتياب والهلع اتجاه السلطات بأقوى صوره عندما كان الهلع يتلبس كل من علم ان الخيل الخاسر والذي عقدت عليه الرهانات من قبل الأربعة المتخاصمون تعود الى اسطبلات عالي المقام! …اما الصورة الثانية تجسدت في خوف فلادمير الشقيق التوأم لنيكولاي والذي ينتمي لعائلة كشنوف وطريقة توجسه وترقبه للمصيبة المحدقة به اتجاه ماقام به من فعل غير متعمد لمجرد انه اطلق الريح مرتين اثناء مرور موكب رئيس البلدية ! ومن المحتمل ان يودي هذا الفعل بحياته وحياة عائلته وتوأمه !،فقد نسج القاص الحوارات والمشاهد بشيء مبالغ به كنوع من انواع الكوميديا السوداء ، فتارة يلوم فلادمير مؤخرته الكريهة لانها ارادت قضاء حاجتها في هذا الوقت الحرج تحديداً فاستجاب لها ووقع ضحية رغباتها! وتارة يخاف حتى من الجدران التي تكاد ان تسمع ثرثرته وتوشي به للحكومة التي وضعت مجساتها الجاسوسية حتى على الجدران! وفي قصة (عربة عاهرة) يسخر القاص من الفقر والعوز بأسلوبه الجريئ والذي يتصف بالايروتيكية الجريئة ! من خلال قصة الشاب الفقير الذي يجر عربة قديمة ورثها عن ابيه والتي تعود بالاصل الى جده فوصفها بالعجوز العاهرة التي لا يهمها سوى اسعاد نفسها! ، ومن الجدير بالذكر ان القاص اجاد رسم شخصياته الساخرة بدقة متناهية والاهتمام بكل تفاصيلها الداخلية والخارجية وبث المشاعر الإنسانية الحقيقية في جوهرها كما في قصة (سرفيس) العجوز الأسمر القبيح احد اقدم السماسرة في تاريخ وسط العاصمة عمان فبالرغم من انه سليط لسان! وبالرغم من فقره المدقع وحبه للنقود ومكافئات نهاية خدمة ما يقدمها لأحدهم! لكنه يمتلك من الإنسانية ما يفتقر له الكثير فهو يكره البخل ويكره سائق السرفيس الذي يطلب النقود من طلاب المدارس ، وفي قصة (بطولة ناقصة) يحاكي القاص اوجاع.الوطن وخسائره الفادحة التي يقدمها على طبق من الألم لكل من يعشق ارضه ويقدم روحه فداء له من خلال حكاية (جبار) عريف المدفعية الذي فقد ساقين وزوجة انانية في احدى المعارك وانتهى به المطاف على الواح خشبية مستهلكة مكسورة يروي من فوقها بطولاته لابنه الأوحد الذي يعمل عتال! وماحدث بينه وبين المسعف (كاظم) الذي انتهى به المطاف كومة محروقة تبتسم لايمكن تحمل النظر اليها لشدة بشاعتها ! فيصف حادثته المريرة بشيء من السخرية والكوميديا السوداء فكان النص منفتح على تأويلات كثيرة والحوارات ملغومة بالشفرات ومدججة بالانتقاد اللاذع للحكومات والسلطات وكما وصف (وهذا هو مصير من كان قريباً من نقطة الصفر …بينما كان الجبناء مختبئين وراء رتبهم القذرة) ! والكثير الكثير من القصص التي تقع على نفس هذه الشاكلة وتحمل نفس الجوهر والمضمون ! واخيراً ان هذه المجموعة القصصية (رياح عائلة كشنوف) استثنائية بكل ما تحمل من أفكار وفلسفات تفرد بيها القاص اتجاه الكثير من المواضيع التي سلط عليها الضوء من منظاره الخاص! وقد تجلت فيها ملامح السخرية بأبهى صورها وتلاعب بها القاص بشيء من الاتقان والبراعة وهذا بدوره اضفى جمالية ولذة خاصة للمتلقي وترك اثر في نفسه…