قبل ايام رصدت حافلتين حمراوتين في ساحة الميدان ..اسرعت الخطى نحوهما ، فوجدت السائق في احداها ، دون وجود ” الجابي” بداخلها .. وسألته عن سر هاتين السيارتين الواقفتين بلا موعد ولا هوية ، حتى عرفت ان في الساحة تعمل ثلاثة خطوط ، تتحرك نحو ساحة عدن ، والبياع والعامرية .
ويبدو ان السواق الثلاثة ، يعملون عل مزاجهم ولحسابهم الخاص ( فلاي – باص ) فلا توقيت لوجودهم ، ولا علم لمغادرتهم ، ولا اشراف ولا رقابة على عملهم .
لا اعرف كيف تم استلام هذه الحافلات الحكومية ، ولا نوعية العقود الرسمية .. وكنت على امل ان تكون وزارة النقل ، قد استفاقت وصحت من سباتها الذي طال ، وتيقنت لحاجة المواطن من توفر شبكات ومنظومة نقل عامة لتحسين المزاج والحال ، ولكي لا تظل الوزارة عرضة للقيل والقال .
وحال النقل البري ، لا يقل سوء عن حال النقل الجوي .. فحركة المطارات العراقية ، هي الاخرى تشهد حالات من الفوضى والأهمال ، بشكل لا يخطر على البال ، ولا يسر الحال .
يا ترى .. متى تعود ساحة الميدان ، الى ايامنا الحلوة ، تتحرك بجميع خطوطها وحافلاتها ، بطابق وبطابقين ، منتظمة ومنظمة ، لتعيد الامل والحياة الى ساحة ، كاد يتحول اسمها من ساحة الميدان .. الى ساحة النسيان .
الغريب .. ان هنالك حملات متواصلة لتبليط شوارع بغداد ، وتجميل حدائق ابي نواس ، وتجديد حديقة الامة ، وبارك السعدون ، ومعظم ساحات بغداد .. الا ساحة الميدان ، وشارع الرشيد ، فقد طواهما النسيان .
.ساحة الميدان ايها العزيز ..كانت ساحة يتجه صوبها معظم العراقيين الذين يستقلون حافلات ( باصات ) مصلحة نقل الركاب ، تتوزع نحو خطوط المناطق و الأحياء والمحلات البغدادية ، برصافتها وكرخها ، وكانت الساحة تعج بالشيوخ والنساء والموظفين .. وبالعمال ، وطلبة الثانويات والجامعيين .
شخصيا .. وعندما كنت طالبا في الثانوية المركزية “محلة البقچة ” كنت انتظر الحافلة التي تحمل رقم ( ١٦ ) المتجهة الى منطقة العطيفية .. وعندما اشتاق الى حديقة الامة ، والباب الشرقي ، اركب الحافلة رقم ٤ القصر الابيض .
اما لذة التسكع في شارع الرشيد من باب المعظم الى الباب الشرقي .. تتطلب المرور بسوق هرج ، دون نسيان تناول قدح من عصير الزبيب من صنع الحاج زبالة ، الذي كرم زبائنه من مسؤولين ومواطنين ، بتعليق صورهم على جدران محله الصغير .. وتظل صورة الزعيم عبد الكريم قاسم هي الاقرب الى عقله ومزاجه الأثير .. بعد المرور على ملهى الهلال المكتوم ، الذي غنت على مسرحه الاسطورة ام كلثوم ، ونجلس بمقهى حسن عجمي ، والزهاوي ، وكان يلتقي فيهما ، خيرة الشعراء و الادباء والمثقفين ، الى ان نصل سوق الصفافير وسوف الشورجة وجامع وخان المرجان ، الى مقهى المربعة ، والمقهى البرازيلية ، ليس بعيدا عن مكتبة مكنزي وكتبها الاجنبية ، الى محلات اورزدي الراقية ، ومحلات شريف وحداد ، وحسو اخوان ، واربطة البلداوي ، واسطوانات چيمقچي .. الى صالات السينما ، الوطني وريكس وروكسي ، وسينما الزوراء ..التي ما زالت تحتفظ بأجمل واجهة معمارية ، بكل تلك الاصالة والنقاء .
ويبدو ان كل هذا التراث الجميل .. وهذا الرقي الحضاري ، لا يحفز العقل البغدادي ، ولا العقل السياسي ، ولا حتى امانة بغداد .. على انقاذ شارع الرشيد من الاهمال الذي طال ، وتبعثرت على ارصفته المنسية كل تلك الذكريات و الآمال .
.كان الامين السابق السيد علاء معن .. قد وعدنا بأعادة الحياة الى شارع الرشيد ، حينها ذكرته بأهمية ساحة الميدان ، وما تحمله من ذاكرة جمعية بغدادية في العقل والوجدان ، وامكانية ان تعود كما كانت .. ووعدنا الرجل خيرا ، لكنه غادرنا لأسباب قاهرة بطلها القاضي وابن فلان ..ثم حل مكانه الامين الجديد عمار الاسدي ، وكان ودودا معنا ، وخضنا معه نقاشا حول ضرورة اصلاح حال بغداد ، وشارع الرشيد ، وصبرنا وانتظرنا ساعة المباشرة بتجديد هذا الشارع العتيد .. بعد ان اكتملت تصاميمه ، ورسمت شناشيله .. ويفترض ان تكون البداية من ساحة الميدان ومقترباتها ، الى ساحة الرصاف ومحيطها كمرحلة اولى .. لكن الوعود كثرت ، والآمال تبددت ، وامست قصة اعمار شارع الرشيد .. من قصص الف ليلة وليلة ، بالحلم لا بالقرار السديد .
شارع الرشيد يا سادتي .. قبلة العراقيين والعرب والسائحين ، هو هوية وذاكرة بغداد الحضارية ، مثله مثل شارع اوكسفورد في لندن ، و الشانزليزيه في باريس ، و شارع الاستقلال في اسطنبول ، تدهور الرشيد ، وسقطت عمامته ، و اهترأت جبته ، وتشوهت سيرته .. لكنه ظل ماثلا في عقول البغداديين ، لأنه عين بغداد الفطنة اليقظة ، قبل ان ” تتريف ” العاصمة ، وتصبح مدينة كئيبة مهملة دميمة بالعاهات ، ومن اكثر المدن في العالم ، تخلفا ووساخة ونقص بالخدمات .. مدينة مستباحة من المواطنين والمسؤولين واللصوص والرعاع ، والمتسولين ، فكانت عاصمة ، بلا هوية معمارية ، وبلا ذاكرة جمعية .
لقد كتب الكثير عن بغداد ، مكتباتها .. وقصورها .. واثارها .. وجمالها .. ومراقدها ومقابرها .. ورقيها وكرم وشهامة اهلها .. حتى سال حبر العديد من المستشرقين ، والرحالة والسياح والمثقفين ..عرب واجانب وعراقيين ، وهناك من وفر قلمه و جهده لشارع الرشيد ، مثل صديقنا المغترب سعدون الجنابي .
تخطيط المدن يحتاج الى رؤية جمالية ، والى خطط استراتيجية .. والى عمل متواصل يجعل الكل في حالة انذار ، وفي متابعة مستمرة و متواصلة في الليل والنهار .
الثابت .. ان امانة بغداد بحاجة الى تجديد نفسها ، وتحديث افكارها ، وتطعيم كوادرها بعناصر جديدة ، من المهندسين المدنيين والمعماريين ، والمهندسين الزراعيين ، وان لا تكون غنيمة للمقاولين الفاسدين .
واظن ان الواقع الحضري لبغداد ، والوضع الاداري والمالي ، لا يشجعان على نقل العاصمة من حال الى حال ، لهذا ستظل النهضة الكبرى للمدينة بعيدة المنال .
كانت بغداد قليلة في سكانها ، متواضعة في خدماتها ، مكتفية بكوادرها .. لكنها اليوم قد توسعت ، وكبرت وترهلت ، وتلاشى التصميم الاساسي الذي كان اطارها وعنوانها ، فكثرت تشوهاتها ، واختفت معالمها ، وهي بحاجة اليوم الى توسيع عمل دوائرها البلدية ، بحكم زيادة الكثافة السكانية ، والاختناقات المرورية .
لا يمكن ان تقوم للعاصمة قائمة ، طالما ان افكار واليات النهضة المدنية لعاصمة الخلافة العباسية ، تتحرك برؤية بدائية غير حضارية ، رؤية خالية من التجديد والابتكار ، وخالية من تخطيط لا يصنع الجمال ، ولا ينشد الكمال .
المدينة .. كائن حي ، تتفاعل وتتأثر بمن حولها .. ولكي تكون بغداد حية بهية ، مشرقة ندية .. علينا ان لا نبخس حقها في تخصيص الاموال ، وزج عناصر فاعلة مبدعة فوق كل اعتبار .. وصولا الى عوامل الرقي ، و
تحقيق الازدهار ..&
د كاظم المقدادي .