وفاة الروائي “حليم بركات” في أمريكا المفكر و عالم الإجتماع السوري الكبير
#الشبكة مباشر_كاليفورنيا
عن عمرٍ ناهز 90 عامًا، توفّي الروائي والمفكر وعالم الاجتماع السوري الكبير حليم بركات (1933- 2023)، في الولايات المتحدة، تاركاً وراءه مسيرة حافلة بالعطاء، و17 مؤلفاً في الرواية والسوسيولوجيا، بحسب ما أعلنت عائلته.
من جانبه نعى اتحاد الكتاب العرب المفكر النهضوي حليم بركات، مؤكدًا أن الراحل قدم للثقافة العربية أدباً متنوعاً، انطلاقاً من روايتيه القمم الخضراء، والصمت والمطر، إلى كتاباته التي تدافع عن عدالة القضايا العربية، ولاسيما قضية فلسطين، .
وقال رئيس اتحاد الكتاب العرب محمد الحوراني: “لقد قدم الفقيد أبحاثاً ودراسات اجتماعية وثقافية تتناول المجتمع المعاصر وأنماط معيشته، ومحاولة دعم بناء الأسرة والمجتمع، والعمل ثقافياً على وحدة العرب، إضافة إلى التوجهات التي تتجاذب العرب بين التقليد والحداثة والغرب والشرق والماضي والمستقبل والانتماء إلى الجماعة والانتماء إلى الأمة”.
وأضاف الحوراني: لقد فقدت الساحة الفكرية والإبداعية رمزاً باذخ العطاء من الرموز الوطنية والانفتاح، والمخلص لوطنه وانتمائه.
كما نعاه صندوق القدس للتربية والتعليم وتنمية المجتمع (وهو منظمة أميركية غير حكومية) بركات، مشيرًا إلى أنه كان عضوا في لجنة مركز فلسطين، ومنوها بأدواره المهنية المميزة التي أثرت علم الاجتماع والأدب العربي.
وضع قاسي وحزين
ووفقًا لصحيفة “الأخبار” فقد تأخرَ إعلان خبر رحيل حليم بركات أسبوعاً كاملاً، وأثار هذا الأمر استنكارًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين انتقدوا أن يحدث مثل هذا الإهمال في إعلان مثل هذا الحدث المفجع في وقته.
لكن ما حدث فعلاً، هو أنّ الراحل كان يقبع في مصحّة خاصة بعد إصابته بمرض ألزهايمر، وهو أمر آخر أثار تفاعلا كبيرًا بين من كانوا لا يعلمون به، حيث اعتبروه وضعًا قاسيًا وحزينًا، ويمثل محنة كبرى لشخص من هذا الطراز الكبير، أن يقع فريسةً للنسيان، وأن يتبخّر أرشيف ذاكرته، وينطفئ هذا الشريط الطويل من رحلة المنفى والاغتراب والحنين لهذا الرجل التسعيني الذي شهد وقائع قرنٍ كامل لعالمنا العربي.
الغربة الأولى والأخيرة
رحل حليم بركات في المنفى الأمريكي، أو في غربته الأخيرة إن صح التعبير، فقد وُلد الروائي والمفكر الراحل في قرية الكفرون التابعة لمحافظة طرطوس السورية عام 1933.
ووفقًا لصحيفة “المدن” فقد كانت غربته الأولى هي رحيله القسري عن مسقط رأسه في سوريا إلى بيروت، وذلك بعد أن اضطرّت أسرته للانتقال إلى لبنان إثر وفاة والده المبكرة، عندما كان حليم بسن العاشرة، وتردّي أوضاعهم الاقتصادية.
حينذاك رحلت والدته إلى بيروت بحثاً عن عمل، ولاعتقادها أنه سيكون بإمكانها تأمين الدراسة لحليم وإخوته في مدارس لبنان.
يقول بركات: “كانت والدتي امرأة أميّة، لكنها كانت تعي أن المنقذ لنا كثلاثة أطفال هو تحصيل العلم”. واستأجرت مستودع الحطب. وحين تمكنت من “شراء حصيرة ومساند ينام عليها أولادها”، “التأم شمل العائلة في مطلع سبتمبر 1942″، بعدما كانت الأم سبقت الأبناء إلى بيروت”.
وبفضل عمل أمّه وكفاحها من أجل إعالته وأخوته، استطاع بركات التدرّج في المستويات الدراسية، إلى أن نال إجازة عام 1955، ثمّ درجة الماجستير في علم الاجتماع من “الجامعة الأميركية” في بيروت عام 1960، والتي عاد إليها مُدرّساً فيما بعد؛ أي بعدَ ذهابه للدراسة في الولايات المتّحدة وحصوله على درجة الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي من “جامعة ميشيغان ــ آن آربور”.
انتقاله إلى أمريكا
وانتقل بركات في البداية إلى أمريكا لمتابعة تحصيله الأكاديمي، حيث حصل على الدكتوراة عام 1966، ثم عاد إلى لبنان وانضمّ إلى هيئة التدريس في الجامعة الأميركية في بيروت كأستاذ في مادة علم الاجتماع.
إلا أنه عاد إلى أمريكا من جديد عام 1975 بسب عدم ترقيته في الجامعة الأمريكية في بيروت، وقال عن ذلك في حوار مع مجلة المستقبل العربي: “أظن أن سبب ذلك كان اهتمامي بالقضية الفلسطينية، حيث أجريت حينذاك أبحاثاً في مخيّمات اللاجئين في الأردن، وكتبت كتابي حول أزمة اللاجئين بعنوان: نهر بلا جسور”.
وأضاف: “ومن قبيل الصدف أن دعتني جامعة هارفارد في أمريكا إلى الانضمام إليها كأستاذ زائر. ومنذ ذلك الحين، وجدت نفسي منفياً في الولايات المتحدة”.
وفي أمريكا عمل بركات أستاذاً جامعياً في عدة جامعات من بينها هارفارد (1972-1973)، ثم في جامعة تكساس (1975-1976)، ثم انتقل أخيراً للعمل في جامعة جورج تاون التي قضى فيها أكثر من ربع قرن.
وبحسب ما ورد في كتابه “المدينة الملونة”، فقد هاجر من بيروت إلى أمريكا في صيف 1975 إثر اندلاع الحرب الأهلية، على أمل أن يكون رحيله عنها مؤقتاً، لكن طال الغياب في واشنطن 25 عامًا، تخللته زيارات سنوية قصيرة متقطعة إلى بيروت.
يقول: “وجدت نفسي في المنفى لا أدري أهو نفي طوعي أم قسري، ويضيف: “وجدتني أتوق إلى زيارة حلب أو دمشق لأنعم بما أظنه أقرب ما يكون إلى ثقافة عربية أصيلة لكثرة ما تعبت نفسي بعد كل هذا الغياب بما يسمى حضارة غربية حديثة”. وتابع أنه حرص خلال الربع الأخير من القرن العشرين على العودة سنوياً إلى بيروت.
بداية أدبية مبكرة
بدأت ميول حليم بركات الأدبية تظهر مبكرًا، ففي المرحلة الإعدادية نشر باكورة قصصه القصيرة في مجلة “صدى النادي” الطلابية التي أشرف على تحريرها الأديب فؤاد سليمان الملقب بـ”تموز”. ويقول إنه تأثر بجبران خليل جبران وسعيد تقي الدين وبعض الأدبيات القومية السورية.
ومنذ ستينيات القرن الماضي أسهم حليم بركات في كتابة أبحاث ودراسات ومؤلفات لها قيمتها الكبيرة في الحياة العلمية الاجتماعية ومجالات الإبداع الأدبي.
فخلال فترة تكوينه العلمي نشر روايتين هما (“القِمَم الخضراء”، عام 1956؛ و”ستّة أيّام”، عام 1961) ومجموعة قصصية هي (“الصمت والمطر”، عام 1958)؛ وهي أعمالٌ جمع فيها بين البُعد السيَري والهمّ القومي، الذي كان قد تنمّى خلال قيامه بأبحاث ميدانية في لبنان قابل فيها لاجئين فلسطينيين ومثقّفين عرباً.
وظل بركات يتنقّل بين هذين البُعدين في مجمل رواياته اللاحقة، مثل “عودة الطائر إلى البحر” (1969)، و”الرحيل بين السهم والوتر” (1979)، و”طائر الحوم” (1988)، و”إنانة والنهر” (1995)، كما سيجمع بينهما في كتابه السيَريّ “المدينة الملوّنة” (2006)، الذي يستعيد فيه حياته ببيروت.
مؤرخ الاغتراب
يرتبط اسمُ حليم بركات بظاهرة الاغتراب، التي شخّصها منذ أعماله البحثية الأولى في الثمانينيات، والتي حلّل فيها راهن المجتمعات العربية.
ووفقًا لموقع “الجزيرة نت” فقد تناولت أعمال بركات ظاهرة الاغتراب بشكل مكثف، ولاسيما في المجتمع العربي حيث يرى أن الشعب “يعيش كابوسًا لا حلمًا.. إنه محاصر، ودائرة الحصار تضيق باستمرار، فيضطر بفعل اليأس إلى الانشغال بتدبير شؤونه الخاصة وتحسين أوضاعه المعيشية المادية على حساب كرامته وإنسانيته وطاقاته الإبداعية”.
وهذا الاهتمامٌ بظاهرة الاغتراب قاده بعد عقود، لتخصيص كتابين عمّق فيهما أبحاثه حولها وتناولها على مستويين: الأول الاغتراب في الحياة اليومية للمواطن العربي من خلال كتاب “الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الإنسان بين الحلم والواقع”، الصادر عام 2006.
والثاني الاغتراب في حياة المثقّفين من خلال كتاب “غربة الكاتب العربي”، الصادر عام 2011، والذي حكى فيه عن الكثير بشأن اغترابه وتغرُّبه كمثقّف، وعن “غربات عديدة داخل الوطن وخارجه” عاشها إنسانا ومثقفا.
وجمعت بركات -كما تروي فصول الكتاب- صداقة حميمة بمثقفين وكتّاب في المنفى، وتناول تأثيرات الغربة في شعر أدونيس وفي فكر هشام شرابي وإدوارد سعيد، وفي روايات جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف والطيب صالح، وفي مسرح سعد ونوس وفي لوحات مروان قصاب باشي.
وفي مجموعته “رياح وظلال” قدم الروائي وعالم الاجتماع الراحل 3 أو 4 قصص تنتمي في الزمن إلى ما بين 1960 و2009، وهي أعمال تظهر تمسك الكاتب الدائم بالتزام القضايا الإنسانية والقومية على حساب المتعة والسعادة الفرديتين.
ووفقًا لموقع “الشرق” فقد عُرف بركات بدفاعه عن القضية الفلسطينية، إذ جمعته علاقة صداقة بالكتّاب الفلسطينيين في لبنان، من بينهم غسان كنفاني، كما كان عضواً بارزاً بلجنة مركز فلسطين في أميركا.
كاتب النبوءة
وإلى جانب لقبه بمؤرخ الاغتراب يلقبه البعض بمؤرخ الهزائم، وذلك بسبب توقعه مبكرًا لحدوث نكسة 1967 التي هُزم فيها العرب من إسرائيل.
يقول في أحد حواراته: “في عام 1961 نشرت سنة 1961 روايتي الثانية “ستة أيام” التي تصوّرت فيها وقوع حرب بين إسرائيل والعرب، ولتكثيفها قلت إنها تمّت في ستة أيام.
وعندما قامت الحرب الحقيقية العام 1967 كتبت رواية أخرى بعنوان: “عودة الطائر إلى البحر” التي تروي الحقائق التي حصلت في تلك الحرب. وكُثُر هم النقاد الذين اعتبروا ستة أيام نوعاً من النبوءة، لكني رفضت مثل هذا التوصيف، وفضلّت تعبير: الوعي بالواقع العربي الرزين والهشّ تجاه أعدائه”.
عالم الاجتماع الكبير
رغم شهرته الكبيرة كروائي فإن هناك كثيرون يرون أن شهرة بركات كعالم اجتماع فاقت سمعته كروائي وكاتب قصة قصيرة. ويعود الفضل بذلك، بالدرجة الأولى إلى كتابه “المجتمع العربي المعاصر” الذي استغرق إنجازه نحو ثلاثة عقود.
ووفقًا لموقع فإن الشهرة الأكبر التي استحقها حليم بركات خلال حياته كانت من خلال إسهاماته السوسيولوجية، التي قدّم من خلالها ــ “بلغةٍ تحليلية، نقدية”ــ وصفاً لبنية وأزمات “المجتمع العربي المعاصر”، وهو عنوان كتابه البحثي الرئيسي الذي صدر عام 1984، وسيُفرِّع عنه كتباً أُخرى مثل “المجتمع العربي في القرن العشرين” عام (1999)، و”المجتمع المدني في القرن العشرين” عام (2000).
كان بركات في كتبه هذه نقدياً إلى ذلك الحدّ يستحقّه الوضع العربي بسبب ما يعرفه من ركود وضياع في متاهة تبدأ بـ”تقليد الماضي” وتنتهي بـ”تقليد الآخر”، كما يقول.
بل وذهب في العديد من أعماله حدّ وضع حلول لاغتراب المُواطن عن مجتمعه، ولفساد مؤسّسات الدولة، ولهرمية المؤسّسات الاجتماعية.
وفي حوار أجراه معه ماجد السامرائي ونُشر مطلع 1978 بمجلة “الأقلام”، يلخّص الراحل رؤيته إلى التغيير العربي، الذي يقول إنه يتطلّب “تحقيق الحرّية والعدالة معاً”، إذ “لا يمكن تحقيق إحداهما دون الأُخرى، فارتباطهما ارتباطٌ عضويّ كيانيّ”. ويذهب إلى خلاصة موقفه ليقول، في الحوار نفسه: “رؤيتي للواقع تنطلق من قناعة تؤكّد على وجود تناقضات راسخة في المجتمع، وأن التحرُّر لا يكون دون حدوث ثورة شعبية تهدف إلى إقامة مجتمع موحّد ــ اشتراكي ــ ديمقراطي”.