العنف الرمزي و تجلياته في المؤسسة الأكاديمية
#الشبكة_مباشر_جامعة سامراء_د. سهام السامرائي
العنف الرمزي مفهوم سوسيولوجي ( Symbolic Violation ) معاصر ، يعد من أكثر المفاهيم حداثة ،طرحه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في سبعينات القرن الماضي بدراسته وتحليله لمفهوم السلطة والهيمنة فهو (( وسيلة لممارسة السلطة على فاعل اجتماعي بهدف إكراهه )) بوساطة (( فرض المسيطرون في المجتمع طريقتهم في التفكير والتعبير والتصور ، الذي يكون أكثر ملاءمة لمصالحهم ، ويتجلى في ممارسات قيمية ، ووجدانية ، وأخلاقية ، وثقافية تعتمد على الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة مثل: اللغة ، والصورة ، والإشارات ، والدلالات ، والمعاني وكثيرًا ما يتجلى هذا العنف في ظل ممارسة رمزية أخلاقية ، والسلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية ، ولا يمكن أن تمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم خاضعون لها ، بل يمارسونها ، فهي سلطة بناء الواقع ، وهي تسعى لإقامة نظام معرفي وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي )) .
وينماز العنف الرمزي بالتستر والانسياب في العقل من دون أن يشعر الفرد بهذه القوة التي تجعله يستسلم لها إذ تبرمجه بصورة لا واعية وتستقر في عقله الباطن ، على أنها ممارسات طبيعية لا ضرر فيها ،ويبدو هذا العنف وكأنه شكل من أشكال التعاون الذي يعود بالمنفعة على كلا الطرفين ، (( ويزداد هذا العنف حدةً ، عندما نجد ( رجع الصدى ) لهذا العنف محلّ إجماع صامت أو صريح بين الضّحايا والجلاّدين في الوقت نفسه . فيصبح المجتمع عبارة عن مصنع منتج للعنف الهادئ الذي يفعل فعله باسم مبادئ تصف نفسها بأنّها أخلاقية وتحاط بهالة من التّقديس . هذه المبادئ تقدّم على أنّها أخلاقية وطبيعية لا تحتاج إلى النّقاش وهي في الحقيقة اعتباطية وقائمة على خواء علمي وأخلاقي ، مستغلة ثقافة المجتمع السّائدة)) .
والعنف ظاهرة اجتماعية لازمت البشرية منذ بدءالخليقة ،على اختلاف درجة رقي وانحطاط تلك الشعوب ، وقصة قابيل وهابيل أبرز مثال على ذلك ، إذ شهدت الأرض آنذاك أول جريمة قتل شهدها التاريخ الإنساني تم استعمال العنف المادي فيها . واتخذ العنف عدة أشكالٍ مباشرة وغير مباشرة ، ظاهرة ومستترة ، بدءًا من العنف الجسدي متمثلًا بالقوة العضلية ، ومرورًا بالعنف الرمزي الذي لا يقل خطورة عن العنف الجسدي ، والتي نجدها تمس المؤسسات كلها الاجتماعية والتعليمية .
والجدير بالذكر أن العنف الرمزي فاعل ويحقق نتائج أكثر من تلك التي يمكن أن يحققها العنف المادي وغالبًا ما يمارسه النخب من الطبقات المهيمنة وأصحاب السلطة والقرار من المتشدّدين على المرؤوسين بصورة خفية مقنعة غير مباشرة ، إذ يقومون بفرض مفاهيمهم وأفكارهم وقناعاتهم ورؤاهم على الآخرين بشكل غير ملموس ، من دون مراعاة لمرجعيات وأفكار ورؤى الآخرين ؛ لكي تحظى بالسيطرة ، مما يولد عند الآخر إحساسًا وشعورًا بالنقص والضعف والدونية وعدم الثقة بالنفس ، والتردد والخوف والقلق . وهذه الأساليب أكثر إيلامًا من أشد العقوبات الجسدية ، سواء في العمل أو في الأسرة . وبدأ هذا النوع من العنف ينتشر ويتمدد في مفاصل الحياة كافة بدءًا من الأسرة ووصولاً إلى أعلى سلطة في المجتمع ، لا فرق بين سلطة دينية أو سياسية أو فكرية أو اجتماعية ،
الكل بدأ يمارس هذا النوع من العنف الذي يمكن أن نصطلح عليه -بحسب رؤية الكثير من المفكرين- بالعنف الثقافي ؛ لأنه لا يأخذ طابع الشدَّة والقسوة والقوة الظاهرة وإنَّما يُمرر بشكل خفي غير مرئي ، بصنوف من الأفعال والأقوال التي من شأنها أن تلحق الضرر النفسي للآخر ، وأن تعرّض حياته وعمله للخطر ، وأن تتسبب بتعكير أجواء العمل وتسميمه . بعملية التهميش والإقصاء المهذب ، من دون أن يشعر النَّاس بهول وفظاعة وبشاعة ما أصابهم ، بل ربما يصل الأمر بالمتضرر إلى التبرير والتماس العذر والدفاع عن المتسبب بالضرر وإيجاد الحجج له . فهو وسيلة من وسائل الهيمنة ، وصورة من صور الإكراه بقوة .
وغالبًا ما يؤدي هذا النوع من العنف بالشخص المتضرر إلى الانكسار والهدم من الداخل من دون أن يلحظ ذلك القريبون منه ، ربمَّا بالعبارات البريئة ظاهريًا أو الإشارات وغيرها من وسائل العنف الرمزي . فتجده منطويًا على نفسه محبطًا مبتعدًا عن الآخرين .
وتتعدد المجالات التي يشتغل فيها هذا النوع من العنف ، ولعل من أبرزها : الأسرة ، والمدرسة ، والإعلام ، والدين فأكثر أشكال العنف الرمزي يتم التأسيس لها في هذه المؤسسات.
وفي المؤسسات الحكومية نلحظ أن فيها عنفًا رمزيًا تشرعه القوانين التي تحوي في مكوناتها الظاهرة عدالة مصدرها تكافؤ الفرص وخضوع الجميع للقانون . ولأجله فالسلطة في أي مؤسسة حكومية تتسلم في واقع الأمر تفويضًا من الجهات العليا لفرض القرارات، فبهذا التفويض يتم الاستغلال وتمرير العنف الرمزي بلطف وسهولة ويُسر .
والمؤسسة الأكاديمية كمؤسسة اجتماعية ليست بمأمن عن المشكلات الاجتماعية التي تواجهها المجتمعات الإنسانية المعاصرة وتعد مشكلة العنفالرمزي في الوسط الأكاديمي إحدى المشكلات التي أصبحت تشكل ظاهرة . وتعدد الفاعلون والممارسون لهذه الظاهرة ، وأصبح كلّ من تبوأ منصبًا إداريًا يمارس هذا النوع من العنف على المرؤوسين . إذا نجد عنفًا مبطنًا مستترًا خفيًا يمارسه أصحاب السلطة والقرار من أصغر مسؤول في المؤسسة إلى أعلى سلطة مسؤولة فيهامن بعض الذين تبوأوا مناصبهم بالمحاصصة الحزبية والعشائرية متكئين على دعم تلك المرجعيات لهم ؛ فتجدهم يتفننون في ممارسة عنفهم الرمزي على مرؤوسيهم ممن لا يتوافقون معهم في الرؤية والطرح والفكر ؛ إذ يستغلون صلاحياتهم الممنوحة لهم قانونيًا في أذية مَنْيخالف توجهاتهم أو ممن يشعرون تجاهه بالنقص والضعف و ممن يرفض التبعية والخضوع والخنوع والاستسلام وأكل الحرام .
وهذا الانفلات الأخلاقي والقيمي للمسؤول المتسلط ممن يجتهد في ممارسة العنف الرمزي وعدم الشعور بالخوف من الحساب والعقابنتيجة أسباب كثيرة منها أسباب نفسية مثل : اضطرابات نفسية يعيشها الشخص المسؤول المتسلط وربما عدم إدراك لما يقوم بفعله فهو مريض يسعى للسيطرة على الآخرين؛ لتغذية النقص الحاصل لديه. والأمر الثاني: انعدام الوازع الديني والإنساني ؛لابتعاد المسؤول عن التعاليم الدينية والقيم الأخلاقية والاجتماعية . أما الأسباب الواقعية فمنها :حصوله على ضمانات من الجهات الحزبية التي يعمل تحت مضلتها بعدم محاسبته مهما فعل .
وهذا النوع من العنفالرمزي لم ينل حظه من الدراسة والتحليل ، والهدف الأساس من التعرض له هو جذب انتباه الجهات العليا لما يحصل في هذه المؤسسات من عمليات ظلم وتعسف وتسلط واستبداد وقهر وتحكم واستغلال ووجوب اتخاذ ما يلزم اتخاذه تجاه من أساء استعمال الصلاحيات الممنوحة له ومحاسبته على سوء استعماله .
ومن أبرز مظاهر العنف الرمزي في المؤسسات الأكاديمية :
1- الإنكار القيمي : يتمثل بإنكار المسؤول المباشر لقدرات ومهارات الأساتذة والموظفين؛ لإخضاعهم والسيطرة عليهم وتحجيم دورهم وقدراتهموقتل طاقاتهم وتعطيل مواهبهم التي ينمازون بها .
2- التبخيس : ويعني في المؤسسة الأكاديمية عملية إقصاء وتهميش وتغييب الأستاذ الجامعي أو الموظف والتقليل من قدراته ومهاراته وقيمة ما يقوم به عمل بحثي أو نشاط أكاديمي أو غير
أكاديمي ومحاولة إبعاد الأنظار عنه إعلاميًا؛ خوفًا من لفت الأنظار إليه.
3- الاستلاب النفسي : يتمثل في استلاب حق الأستاذ الجامعي أو الموظف من حقوقه المشروعة وتجريده من الامتيازات التي يفترض أن يتمتع بها أسوة بزملائه في العمل مثل : حقه في
الإشراف والتدريس في الدراسات العليا والمشاركة في المناقشات واللجان العلمية وحقّه في التعبير عن آرائه وأفكاره وحرمانه من المناصب الإدارية التي أهلٌ لها .
ختامًا :
العنف الرمزي وسيلة غير مباشرة تتخذ أشكالًا خفية لا تفهمها عامة الناس ، تترسخ وتتجذر فينا من دون وعي منا ، وغالبا ما تستعملها الطبقة المهيمنة أو الطبقة العليا في البنية الاجتماعية للمجتمع
بصورة خفية مبطنة للهيمنة والسيطرة ولفرض عقلية أو ثقافة أو نمط حياة على الآخرين وإلحاق الضرر بهم بشكل تعسفي تسلطيبمجموعة من الإشارات والحركات والأفعال .