من الحقائق البديهية، إن المال هو العمود الفقري للعمل السياسي. فهو يسمح لمن يملكه بالسيطرة أو على الأقل بالتدخل في القرارات السياسية وخاصة فيما يتعلق ببعدها الاقتصادي عن طريق قوى يقوم بتمويلها. إن تمويل الأحزاب مقابل خدمات سياسية، ليس كل المشكلة، ففي الواقع، المشكلة هي عندما يصبح المُمول المُقرر الرئيسي لسياسة الحزب واتجاهاته وأولوياته. إن الممول يدفع فقط لأولئك الذين يدافعون عن مصلحته. من هنا يتضح لنا الدور الذي تلعبه إيران في زعزعة الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط. ولنشرح ذلك بقليل من التفصيل.
لا يوجد أي شك على أن إيران لا تستطيع أن تلعب كون من المؤكد أن دور إيران في زعزعة الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط لا يمكن أن يكون بدون دعم واستثمارات خارجية ضخمة.
فإيران ليست من الدول العظمى وإمكانياتها الاقتصادية محدودة ومعروفة. وحسب المصادر الحكومية الإيرانية والمصادر العالمية فأن الميزانية التشغيلية (بما في ذلك الإيرادات من الضرائب والصادرات المتاحة للحكومة) للسنة المالية 2021 هي 36.42 ملياردولار. يضاف إلى ذلك إيرادات ونفقات الوزارات والمؤسسات الحكومية والتي قيمتها 3.8 مليار دولار وهذا يجعل المجموع الكلي للموازنة التشغيلية العامة الإيرانية بحدود 40 مليار دولار فقط (41 مليار في سنة 2020). السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف تستطيع إيران إدارة الدولة وبرنامجها النووي وتسليح ودفع رواتب ميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن (الذي يقدر عددهم بأكثر من 100 ألف عنصر) وتدفع مصاريف حرب الحوثيين في اليمن وتحقيق طموحات نظامها التوسعية في الشرق الأوسط العربي بميزانية صغيرة جدًا هي أقل من نصف ميزانية جارتها العراق (ميزانية العراق 103 مليار دولار لسنة 2021) في وقت تحتاج فيه إلى أكثر من 180 مليار دولار لسد حاجاتها ودعم ميليشياتها وتنفيذ سياستها الداخلية والخارجية ؟
الجواب على هذا السؤال هو بسؤال آخر: هل لدى إيران ميزانية سرية غير مُعلن عنها تُساعدها في تنفيذ مشاريعها السياسية والعسكرية وغيرها ؟ وإذا كان لديها ميزانية سرية فمن أين تأتي عوائدها ؟ لنحاول أن نتجنب ما تنشره الصحافة العالمية من الأخبار عن تجارة المخدرات التي تديرها الميليشيات التابعة لإيران وعمليات تبييض الأموال المسروقة والتي تدر على خزينة الدولة المليارات من الدولارات، ولنتطرق فقط إلى المساعدات الرسمية وأهدافها، التي تتلقاها من حلفائها وعلى رأسهم الصين. وهذه الأخيرة هي الشريك الأول لإيران في التصدير والاستيراد منذ عدة سنوات. هذا ولم تخفي الصين طموحاتها في الشرق الأوسط، ومن ضمنه إيران، فقد سبق وأن استثمرت فيه 155 مليار دولار بين 2013 و2020.
لقد أعلنت الدولتان، إيران والصين في 27 آذار/ مارس 2021 التوقيع على اتفاقية تعاون إستراتيجي لمدة 25 سنة تقوم الصين خلالها باستثمار، حسب ما نشرته الصحف العالمية، من 400 إلى 600 مليار دولار في مجالات البنية التحتية والطاقة والاتصالات والنقل والعلاقات العسكرية والأمنية. هذه الاتفاقية هي تتويج لاتفاقيات عديدة تم التوقيع عليها وتنفيذها في السنوات الماضية. من حيث المحتوى، الصين تُريد بهذه الاتفاقية تقوية نفوذها ليس فقط في إيران بل أيضا في كل بلدان الشرق الأوسط وفتح الأبواب أمام مشروعها الكبير مشروع طريق الحرير. فما هو هذا المشروع وما أهدافه ؟
في خطابه الذي ألقاه في أستانا، عاصمة كازاخستان، في سنة 2013، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ أن مشروع طريق الحرير (المعروف باسم مبادرة الحزام والطريق Belt and Road Initiative ) له الأولوية الاقتصادية والدبلوماسية في سياسة بكين.
إن أعطاء الأولوية لهذا المشروع يوضح أهميته الإستراتيجية، فهو ليس فقط شبكة من الطرق البرية والبحرية والسكك الحديدية والجوية بل أيضا مشروع سياسي واقتصادي وأمني يهدف إلى زعزعة النظام الأمريكي وتحالفاته الاقتصادية والأمنية، وبحسب تصريح الرئيس الصيني، هو لخلق توازن جديد للقوى لغرض إعادة تقسيم العالم وبما يخدم مصالح بكين وحلفائها. إن الاستثمارات الضخمة التي خصصتها الصين لهذا المشروع يعكس توجه قيادتها لمد نفوذها وللعب دور الجندرمة على المستوى العالمي. ومن ضمن الدول التي يتضمنها مشروع طريق الحرير ويمر بها هي العراق وسوريا ولبنان.
وهنا يلتقي الهدف الصيني بالهدف الإيراني، وهو الوصول إلى البحر المتوسط ولاسيما إلى شواطئ لبنان إذ أن الشواطئ السورية هي تحت سيطرة حليفتهما روسيا. إن السيطرة على الشواطئ اللبنانية سيكون أيضا ضربة تجارية وإستراتيجية قاسية لقناة السويس. فإيران من خلال نفوذها في العراق وسوريا ولبنان واستخدامها للطرق البرية والبحرية والموانئ التي ستبنيها الصين سوف تستطيع تصدير بترولها وغازها بسهولة وبتكلفة أقل إلى أوربا. أما الصين، فإنها ستُوصل بضائعها إلى أوربا وأفريقيا وتمد نفوذها وتفرض نفسها كأعظم قوة اقتصادية في المنطقة. إن التعاون والتحالف بين الصين وروسيا وإيران سيجعل الطريق الذي يمر بالعراق وسوريا ولبنان للوصول إلى شواطئ الأخيرة، شريانا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا مهما في مواجهة أُوروبا وحصار الولايات المتحدة وسيكون أحد عوامل الهيمنة على الطرق التجارية في البحر المتوسط والعالم. لذلك فإن الدعم الصيني والروسي والكوري الشمالي المتنوع الجوانب والكبير لإيران له أهمية كبرى في نجاح المشروع. فالهدف ليس فقط مساعدة إيران وتقوية اقتصادها المنهار بل أيضا دعم سياستها الخارجية الهادفة لزعزعة استقرار العراق ولبنان وغيرهما من خلال الميليشيات الشيعية المسلحة ومن خلال التحريض الطائفي، لأن ذلك سيخلق الظروف التي ستدفع هذه الدول للاستسلام لإيران والموافقة على ما تمليه عليهم الدول المتحالفة ولاسيما الصين.
إن إيران ليست اللاعب الوحيد في الشرق الأوسط. إذ لا يمكن فصل ما يحدث في داخل الشرق الأوسط والدور الذي تلعبه الميليشيات الإيرانية في زعزعة أمنه واستقراره عن التوجهات الصينية والروسية. فالدولتان الصينية والروسية تعتمدان على إيران في تهيئة الوضع في المنطقة وبما يخدم توسيع وتثبيت نفوذهما وبناء قواعدهما التجارية والعسكرية لإحكام السيطرة على الشرق الأوسط وإبعاد الولايات المتحدة وحلفائها عنه. إن الدعم الصيني الكبير والمتنوع لإيران وتحويلها إلى قاعدة مهمة لإستراتيجيتها، وزج العراق وسوريا ولبنان في مشروع طريق الحرير سيُبعد الصين من المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة وينقل الصراع مع الأخيرة إلى إيران والدول العربية المتورطة معها أو الخاضعة لها. وباختصار فأن الدور الإيراني في لبنان، وكذلك في العراق وسوريا واليمن، لا يمكن أن يُنفذ بدون الدعم الصيني وكذلك الروسي والكوري الشمالي ولكل من هذه الدول دور محدد ومدروس في هذا الدعم.