أدب وفن

اللجوء المرتقب

#الشبكة_مباشر_كاليفورنيا_عقيل العبود

• اللجوء المرتقب *

من شواطئ إندونيسيا كنت أحلم بالوصول إلى أستراليا، والحصول على هوية اللجوء التي حلت محل الوطن المفقود.

كان الحلم مزيجًا من لهفة، وانفعال، وتمرد -نزعة تحركها ذكريات تجتمع الأفراح فيها مع الأحزان، ويتعانق النور فيها مع الظلمة، والعزيمة مع الخوف، وتلك جزيرة الحلم المرتقب؛

محطة يصبح السجن فيها عنوانًا للتفاؤل، ليحل بديلًا عن الإحباط، واليأس، والجوع، والتشاؤم.

لحظات يُفتَقَدُ الشعور فيها بالزمن، وتبتدئ الساعات بالافتراق عن طقسها المعتاد، وتستفيق بعض الأمنيات، لتصبح مثل بذرة تلد، لعلها تتجاوز هذا الطوق الذي يشدها عن سطح الأرض.

عند أول لحظة للوصول، تستعيد الروح المتعبة لغة انكسارها رغم النعاس، والتعب، والإرهاق الذي يستبد بها ، تنهض من شرنقتها، لتعود مرة أخرى إلى الحياة، ويبقى في الذاكرة نظام التهريب، والعَبَّارَة، والإبتزاز الذي يجعل من يفكر بالهجرة ينفق كل ما بحوزته، مثل مقامر يتعرض للخسارة في لعبة القمار.

هنالك بعد الوصول إلى المكان المطلوب ينتظر الناجون السجن المرتقب.

والمفارقة أن الحجز هذا، لم يكن على نمط باقي المعتقلات في بلداننا العربية، وتلك البدلات الداكنة، والوجوه المخيفة، إنما هو مساحة كبيرة تشبه القاعات، يُحتَجَزُ اللاجئون فيها بغية إقرار ملفاتهم، ليتم منحهم هوية اللجوء فيما بعد، مع ملامح يسكنها التفاؤل، والتعاطف، والرحمة.

رحت أرسم ابتسامة على وجهي الشاحب، بعد أن فارقت راحة البال، والاطمئنان منذ أكثر من ستة أشهر، منذ توالي تفكيري بالرحلة المجهولة، لكي أعلن عن نفسي بصفة (refugee).

إنتهى النهار، وموعد الضجيج، ليحل محله صخب من نوع آخر، واستمرت الأفكار في رأسي تتوالى بشكل كثيف، تشدني لأن أفعل شيئًا، ولكن دون جدوى.

أما عائلتي التي تركتها في مكان آمن، فقد كانت تنتظر مثلي هي الأخرى ، لعلها تحقق شملها معي، مثلما حصل ذلك يوم غادرت العراق إلى دمشق.

طلب اللجوء هنا مساحة فارقة، فهو اللحظة التي يصبح لي فيها رقمًا، أسوة بمن سبقني، ويصبح لي مكانًا في أستراليا فيما بعد.

لكن بلوغ ما أصبو إليه، يقتضي أن يكون بحوزتي المبلغ الذي يتجاوز أل (ألفي دولار)، والذي تم فرضه لاحقًا من قبل المهرب، لذلك بقيت معلقًا أطلب النجدة في شواطئ إندونيسيا المهددة بالفيضانات، والكوارث، والغرق.

إتصلت بقريبي الذي استقر في أمريكا، منذ فترة ما بعد التسعينات، سألته عن حاجتي، فأجابني بأنه تزوج من امرأة عراقية ثرية، وسوف يسافر معها، ولم يبق له سوى الرصيد المطلوب في إحدى بنوك ولايته، إتصلت بابن عمي، فكان الرد كذلك، وسألت الآخر، والذي بعده، وأخيرًا كان لي أحد الأصدقاء في ولاية من ولايات ألمانيا، فأجابني بأنه لا يستطيع مساعدتي حتى بورقة واحدة من فئة المائة دولار، معلنًا اعتذاره.

في تلك اللحظة، أخضعت نفسي لتحليل افتراضي، وضعته على طاولة المناقشة مع نفسي فقط، بعدما اعتراني اضطراب شديد، وشعرت بارتفاع درجة الحرارة تدب في أوصال جسدي المرهق، مع شعور بالخيبة، والإحباط، واستلقيت على الأرض متسائلًا ، ترى ما الذي يجبرني أن أضغط على نفسي هكذا، طالما أنني أستطيع أن أحقق عيشًا آمنًا مع عائلتي التي تركتها في دمشق!

لذلك في إحدى ساعات النهار من اليوم الثاني، وجدت جسدي المنهك متكئا على إحدى كراسي الطائرة العائدة إلى البلد الذي تركت فيه أمنياتي، بعد أن أنفقت ثروتي التي كانت تسعفني للعمل في مشروع صغير، يجعلني أشعر بالاستقرار، والقناعة.

أقفلت الأصوات الصماء الخافتة، التي كانت تشكل في ذهني ذلك الإيقاع الرتيب المرافق للأحاديث المتقاطعة على الهواتف، لتعود ابتسامتي محمولة على جناح طائر هزه الشوق مرة أخرى إلى أفراد عائلته، بعدان تعرفت على الطائرة، والبحار والشواطئ، وأعتبرت رحلتي مكملة لرحلة ماجلان، وابن بطوطة حول العالم، ونفرت من تلك الوجوه التي لم يعد يهمها إلا حسابات الأرصدة، ورؤوس الأموال.

——
*ذكريات محاولة لجوء إلى أستراليا، مع ملاحظة أن الموضوع منشور في كتاب حقائق غير هامشية، الطبعة الأولى، من العام ٢٠٠٠، وقد تم تعديله مع بعض الإضافات.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى