قصة قصيرة بعنوان / أرقام /
نحن الخارجون عن الحياة لا نحب العودة إلى التفاصيل، لأنها ترجعنا إلى نقطة الصفر، وتحارب فينا أي بارقة أمل ربما انولدت بلحظة بوهيمية، نعتبرها جسر نجاة لنواصل التنفس بعمق، ونزفر ما هو غير مٱلوف ويضر بنمط الرؤية الغير مخطط لها.
حتى لا ندخل في مرارة ماسبق وعشناه، نحتاج كمّا هائلا من الجهد نلملم به عواطفنا، وذواكرنا المتعبة…
ففي مثل هذا اليوم من شتاءين أو ادنى، في بلدتي القابعة على الطرف الٱخر من الأرض، تأتي إليها قوافل الطيور للحج، تطوف برقة حولها، تتنعم بسكينتها ورداءها الأخضر على مر الفصول، تقيم أعراسها عندنا وتبني أعشاشها لتصبح جزءا منا.
سلام وهدوء وأرض ملكتها الطبيعة وتشبثت بها، لتغدو ميراثا نحافظ عليه.
في تلك الليلة الظلماء تعرضت بلدتي لقيامة من نوع مختلف. بدأت السماء ترسل رسائل مبهمة، واستُبدلتِ الطيورُ بطائرات ملأت سقف البلدة. بدأ الذعر يتغلغل بيننا، يحتل مساحات كبيرة من أجسادنا.
نرتجف ونحضن الأعزاء لنهدئ من روعهم بصعوبة بالغة. لمَ استحضره الآن؟ هو صوت دوي صم الآذان وانقلبت الساعة رأسا على عقب…
صحوت منهكا أزحف على بطني أنادي بصوت احتبس في حنجرتي: أين أنتم؟
انحجبت الرؤية، ورائحة البارود عبقت في الصدر مختلطة برائحة الدم. أزحف أزحف وأزحف، تعرقلني أطراف لا أميز بينها. أتسلق فوق بطون ورؤوس.
غائب أنا عن الوعي، لا أفكر. لا أشعر. لا أتنفس.
النار حولي تقيم حفل شواء. هذا الطين المتشبث بوجهي يستفزني بشراسة، كلما مرغت وجهي لإزاحته زاد التصاقا.
لا أدري كم لبثت… أفقت على آلام مبرحة وقبيلة من الشوك تجتاح جسدي.
عين واحدة تمردت لتكتشف مايحيط بي، والأخرى خانتني تأبى النظر. هذا الغطاء خشن جدا، أشعر أنه يستمتع بعذابي، وتلك الأوجه الغريبة واللغة والمكان… اختلطت عليي اللحظة.
أين أنا وماذا حصل؟ لاشك أنه كابوس مزعج، أريد أن أفلت منه وأواصل الزحف تحت أسلاكه الشائكة.
لا أقوَ على الحراك. أسمع صوتا نسائيا يهدهد مزاجي العكر، ويطمئنه أننا في مأمن.
تمر الأيام وأنا أراقب بتلك العين المجهدة ضوء النهار وحلكة الليل، وأحاول الوصول لبرهة ربما تشعرني بأني على قيد الحياة.
لاشيء سوى جموع تدخل وتخرج وتتهامس.
في لحظة عابرة لحدود ذاكرتي، اكتشفت بأنني فقدت التواصل مع العالم، ومع كل من كان له ميراث من قلبي، وبتُّ وحيدا أصارع الحياة. وعرفت أني بعيد آلاف الأميال عن مسقط رأسي، وأن إحدى المنظمات احتوت المنكوبين لتعالجهم وتأويهم، وتبشرهم بالصبر.
ولكن لا أصدق ولا يمكن أن أصدق…
مرت الأيام دهورا، ولا أزال مصمما على بدء رحلة البحث حين أتعافى، وأقف على قدمي.
وفي يوم البؤس والوجع، قرر الطييب المعالج أن أخرج لزيارة حديقة المشفى المتواضعة، وأن أحاول التأقلم مع الأجواء. بصعوبة، ساعدني ممرض قوي المنكبين على إجلاسي على كرسي متحرك، وأزال الغطاء عن جسدي بالكامل… عندها تحرر صوتي، فاهتز المكان. تعجز الكلمات عن وصف صدمتي وقسوتها، فقد فقدت أدنى أمل بالتحرك والمشي.
انهمرت دموعي نهرا جارفا، وصرخاتي تستغيث وتستغيث. انحنى الجدار يطبطب على ظهري، وتلك الساعة الجدارية توقفت بصمت مهيب مطأطأة الرأس. أما ذاك الشباك بنقاء زجاجه، قدم لي دعوة لآخذ صورة تذكارية مع محتويات غرفتي، لأنهم سوف ينقلوني لغرفة الناجين من بطن الحرب. لبيت الدعوة بفؤاد مكلوم، مستسلما للكرسي الذي يحملني بحزن، والتقطنا الصورة. بدت لي تضم الغول الذي في الحكايات، مع شريكه الذي قد يتخلى عنه يوما ويخونه.
خرجنا إلى الحديقة التي تحتاج علاجا نفسيا لتنهض من كآبتها. ورأيت من هم مثلي، أشباه إنسان.
لم تكتمل لوحة أحدهم، فذاك الرسام المبتدئ لم يكمل عمله قط، وتقاعس حتى عن التلوين. بدوا باهتين، ابتزتهم الحياة فأحالتهم بالأبيض والأسود…
كل يوم أخرج، فيداي باتتا تطالبان بالأكثر.
انتبه الأطباء، وأهدوني عكازين خشبيين أضعهما تحت إبطيّ، ليتأرجح نصف جسدي في الهواء.
أقترب من المقعد الخشبي، وأجلس. يراودني كل يوم ذات الحلم، عندما أضع العكازين أمام وجهي، فيعكس ضوء الشمس على الأرض ظلين ليكتمل المشهد المبتور. أنهض مستبشرا بمعجزة تتوالد منها ساقان، لأبدأ رحلة البحث.
تنجلي الرؤية وأقهقه ساخرا: كيف خرجت عن الحياة؟
… القاصة جمانا العامود … سورية