شحوب الفجر
عقيل العبود
-سأذهب لزيارتهم اولئك الذين استشهدوا في الحرب، سأكتفي بتلك الشموع، وذلك الحضور ليبقى عطرهم حاضرا معي الى الأبد، وسأضع الشموع على تلك المائدة، سأحتفي بأعياد ميلادهم كل عام رغم ابتعادهم هذا الذي يفرض أطواق وحشته القاهرة.
انبعثت تلك الأفكار من أعماق ذاته بيقين ثابت، كأنها تتفجر في نفسه كالبركان، لتصنع منه إنسانا آخر. لذلك قرر ان يستعيد نشاطه متحالفا مع أفكاره بصحبة تلك الأوراق التي بقيت تبحث عن حروف، ليكتب عنوان روايته الجديدة مع اجواء تبدو موحشة توحي بالحزن والاغتراب.
فالليل كما يبدو كأنه على وشك ان يغلق آخر بوابة من بوابات رحلته المعتادة عبر ذلك الإمتداد الذي لا تحده فواصل سوى تلك المساحة العائمة من فضاءات تمتزج الألوان فيها مع خطوط من الأشكال الهندسية من النجوم بسحر عجيب، لعله ذلك الإتساع الذي تحيط به العين المجردة يمضي مواكباً مشوار مسيرته مع أول ضوء من شحوب الفجر. وهكذا ، فمنذ نهايات تلك الساعات الحالكة بالظلام حتى بدايات الصباح، تبتدئ رحلة العم كامل بعمره الستين وملامح وجهه السمراء المستديرة، وإطلالته الوقور، وخصلات شعره الأبيض، المتفاعلة مع هيبته التي تفرض محبته على الجميع، فالرجل أصبح يلازمه الصمت، والحزن منذ صلاة الفجر حتى نهايات الليل، يتكئ على فراشه تارة، ويدخن السيجائر، ويحتسي الشاي أخرى، ينصت إلى أفكاره رغم انصرافه عن قراءة الكتب، وكتابة المذكرات التي كان لها الأثر الإيجابي في حياته منذ سنة ونصف ذلك بعد فقدان أبنه الوحيد في الحرب مع داعش.
حيث لم يعد يطيب له جلسات النهار المعتادة في مقهى الحاج ابو فاضل كما كان، شهيته لتناول الطعام لم تكن كما كانت. لقد تغير كل شئ بالنسبة له بعد غياب ذلك الحضور الذي كان يملأ عليه جميع الأمكنة، والأزمنة.
فقد بقيت تلك المشاهد كأنها تأبى أن تفارق خياله، النظرات الهادئة والملامح الوديعة، ما زالت يسكن صداها مع صوت أم عدنان القابلة التي زفت له بشرى ولادة ابنه قبل خمسة وعشرين عامًا.
يومها راح يقفز من الفرح هاتفاً بأعلى صوته متجاوزاً حدود اتزانه المعهود، ليضم ولده الصغير الى صدره معبراً عن شكره وامتنانه لرب العالمين:
-الحمد لله، كم انت كريم يا رب، كم أنت كريم…
المشاعر كانت تختلط مع كلمات الشكر، لكأنها تحتفي مع تلك الدموع.
سنوات بزهوها، وأحزانها، شريط من الأحداث والمفاجآت، عوالم من التجارب، والعبر، تمشي بتعاقب سلس، تحكي فصول تحققها، مشاهد اختزلت معها حقبة من تاريخ العراق، لتندرج في إطار بضع دقائق من الزمن. وتلك لقطات، تفاصيلها ارتبطت بحياة ذلك الشاب النحيف الهادئ، بطوله الممشوق، بابتسامته المعهودة، بسخائه، بقلبه الطيب، وعلاقاته الوديعة في البيت، والمدرسة، مع الأصدقاء، والمعلمين، والشارع والمحلة، والناس الذين أحبوه، وأحبهم، لم تكن شخصية ابنه الشهيد شاغر مكانها بين الناس، بل بقيت ملتصقة في أذهان أحبته بجميع مواقفها، تلك التي تجانست طبائعها مع الكبرياء، والتحدي، والشجاعة، والأمانة، والكرم، مفردات تتوزعها مفاهيم ما زالت تقتبس منها تلك الحكايات موضوعات لها إيقاع مقابل سيناريوهات اختطاف، وقتل، صور مروعة عن الموت والتفخيخ وترويع الضحايا، والحروب.
تفاصيل تتناغم فيها لغة الموت مع الحياة، وبالعكس، لتفرض تكرارها الدائم.
ومع التكرار تتغير المشاهد، بينما يفرض المشهد القديم خطوات أبجديته القاتمة.
يوم قال الأب لإبنه وهو يحثه على الزواج:
-ستتزوج اللي ببالك يا ولدي.
ليرد عليه الإبن بلامبالاة.
-لم يعد الوقت، والظرف مناسبًا يا أبت.
لقد بقيت آثار تلك المحادثة مثل الجرس في ذاكرة العم كامل. كأنها بها يستعيد نبأ استشهاد ابنه مع زملائه ورفاقه لتتزامن مع الذكريات التي كانت تتوالى مثل قطرات غزيرة من المطر، تتساقط بقوة لكأنها تحمل أحزان أب لم يتحقق له ما يريد، لذلك بقي الرجل بقلب مكسور مع كلماته التي غادرت مع نعش ولده الى المقبرة. فمنذ ذلك الحين، الأيام صار يأكل بعضها بعضا، دون تغير في الحال، فاليأس، وفقدان الأمل فرضا طوقاً من العزلة التامة على حياة الرجل، حتى ان الشعور بمغادرة الدنيا صار شغله الشاغل.
ولكن ورغم ذلك، حيث عند بقايا زاوية قائمة من الذكرى، ثمة شئ كان يشده اليه، شئ من قبيل أمل بسيط، ضوء به يبصر ظلمة هذا النوع من الإنكسار، لعله يساعده على إكمال رحلته مع ما تبقى له من سنوات عمره. هو ربما صورة ابنه الشهيد، هذه التي بقيت تؤطر المكان المفروش ببعض قطع سوداء، وطاولة وُضِعَ فوقها القرآن، ومفاتيح الجنان، إضافة الى مجموعة كُتُب ومجلدات على الرف المجاور لدفتر المذكرات التي اعتاد استخدامه للكتابة قبل الحادثة. أولعله الفجر هذه المرة، تلك اللحظات التي اندلعت منها أخبار مشهد جديد، ومشاعر جديدة، وأفكار جديدة. ربما لأنه رأى في المنام ابنه بطلعته البهية، وبسيماء الأبطال يطل عليه.
لحظتئذٍ، نهض نشيطا لأداء الشطر الأخير من صلاة الليل، معقباً إياها بصلاة الفجر، مع تزايد الرغبة للخروج الى الشارع للقاء أصحابه.
قوة غريبة جعلته ينهض من فراشه متجها بكل كيانه صوب صورة ابنه المؤطرة بالورد تكرارا.
وقف أمامها، استنهضته تلك الرؤية متجها نحو أصداء نداء قادم من جهة المكان الذي كان متسمرا امامه، بينما انداحت الى بصيرته في تلك اللحظة القبة الناصعة للإمام الحسين (ع) بصحبة الشهيد الذي كان يحتفظ بها في ذاكرته خاصة في مراسيم الزيارة الحسينية. كان الأب كأنما يرى ابنه يعود الى الحياة بهيبة جديدة، تطلع مرة اخرى الى زرقة عينيه وهدوئه.
كان وكأنه يشكو من عدم قدرة ساقه اليمنى على الوقوف، لكنه رغم كل ذلك كان مبتسماً، تطلع إليه مرةً اخرى. ابتسامته هي نفسها تلك الخطوط المشعة بالأمل رغم ذلك الإجهاد الذي كان يرتسم على تلك الملامح. لذلك راحت تلك الأفكار تدب في ذهنه لتفرض قوة تأثيرها ما جعل ابو علي يردد مع نفسه:
-الموت والاستشهاد هذه الأيام هو الغالب،
فعباس صديقه، الآن اصبح عاجزاً عن الحركة،
الجرحى والقتلى، أعدادهم تتزايد. الشباب كأنما لوحدهم يدفعون ضريبة الشهادة هذه الأيام.
قال عبارته الأخيرة كأنه يكتشف شيئا مستوراً، حتى راح مستأنفاً يحاكي نفسه بطريقة كأنه يؤملها شيئا اويؤنبها على الحزن الشديد:
-هي نفسها صور التوابيت وقوافل الموتى، ونحن كأنما نعيش من أجل ذكراهم، هؤلاء الذين يتساقطون كل يوم تباعا.
ثم اردف متسائلاً بعد لحظة صمت عميق:
– كيف لنا ان نصنع أيقونة الحياة؟
-الحياة بمطباتها بقدر ما فيها من لحظات جميلة، يُفرَضُ فيها على المرء ان يعيش تعاستها، ومرارتها.
ترى، أما آن لهذا الإنسان أن يُخضِعَ هذا البؤس الذي يفرض عليه أثقال كوابيسه إلى إرادته، أما آن لهذا الكائن ان يصنع الأمل، أما آن لهذا الجبروت ان يكيف نفسه متحديا لغة القدر؟
-إذن..
هتف كأنه يصنع قرارا لمواجهة طوق الحصار الذي ما انفك يفرض مخالبه، ليعطل حياته، وحياة غيره متحديا ذلك عبر ذاكرته التي بها أعاد نفسه لمصاحبة الاوراق التي كانت مبعثرة ساكنة.
عقيل العبود