تحيط هالة من النور بسيدة ترتدي ثوبا أبيض وهي فوق هودج على ظهر جمل يتهادى بخطى بطيئة، بينما يلف الوقار والسكينة مشاهد السيدة التي لا تكشف عن وجهها. وتظهر مشاهد قديمة لمكة المكرمة والمدينة المنورة كما لم تظهر في عمل سينمائي من قبل، حيث تضفي الإضاءة أجواء روحانية على الأماكن وحركة الممثلين. تخوض هذه السيدة في الفيلم صراعا مع رجال آخرين، وتدور الأحداث حول معاناة من يفترض أنها السيدة فاطمة الزهراء -رضى الله عنها- ابنة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في فيلم “سيدة الجنة”، الذي أثار عرضه في بريطانيا موجة عارمة من الغضب بين المسلمين.
المشكلة في فيلم “سيدة الجنة” أنه أقحم السياسة في تفسير السيرة النبوية الشريفة من باب العنف، وأظهر أن سبب عنف تنظيمات مثل داعش وغيرها هو سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما. وهنا يزداد الوضع تعقيدا؛ لأن الفيلم تجاوز تقديم وجهة نظر تاريخية إلى ربط العنف السياسي بمذهب معين
في اللحظات المشابهة للغضب العام والشحن الديني والمذهبي في مناسبات سابقة، لا يبقى مكان للتحليل والنقد. فلا صوت يعلو فوق صوت فريقين أحدهما ينادي بحرية التعبير والآخر ينادي بالمنع بسبب الإساءة الدينية. ولا نريد في هذا المقال الدخول في هذا السجال الاستقطابي، ولا نعتقد أن المقام يسمح حاليا بالنقد الفني للفيلم، بل بإظهار نقاش آخر يتعلق بموضوع الفيلم والظروف التي يتم عرضه فيها.
في البداية، ينبغي تفنيد اتهام غير صحيح ينتشر في وسائل الإعلام العربية والغربية وهو أن الغضب العارم لكثير من مسلمي بريطانيا ضد الفيلم كان بسبب تجسيد السيدة فاطمة الزهراء، حتى ولو لم يظهر وجهها رغم إظهار ممثلين آخرين في أدوار عدد من الصحابة؛ والدليل على ذلك أن مسلسل “عمر” لم يثر كل هذا الغضب إبان عرضه قبل سنوات في العالم العربي، بل على العكس، قوبل بحفاوة وترحاب منقطع النظير، والأمر نفسه تكرر مع مسلسل “الحسن والحسين”.
وهذا يعني أن الجمهور العام للمسلمين ليست لديه مشكلة مع تجسيد شخصيات للصحابة والتابعين ما دام ذلك يتم في إطار من الاحترام وعدم التشويه. مسلسل “الحسن والحسين” مثلا أخذ موافقات من مراجع دينية سنية وشيعية وإباضية من مختلف دول العالم الإسلامي. ولا أتصور أن الموافقات نفسها كانت جواز مرور هذا النوع من المسلسلات، بل تمثلت في فكرة تقدير المشاهد وأنه يقع ضمن حسابات المنتج والمخرج وعدم محاولة فرض رؤية فوقية عليه من دون أن يكون له دور في الرد أو إبداء الرأي، خاصة إذا كانت هذه الرؤية تمس عقيدته ودينه.
في هذا السياق، لا يمكن أن نغفل أن السينما بوصفها أداة فنية، وخاصة في الدول الغربية، لا تزال بعيدة عن تجسيد أحوال وآمال وآلام المسلمين لأسباب متعددة. بل على العكس من ذلك، طغت الرؤية الاستشراقية للعرب والمسلمين في الأفلام منذ بدايات عهد السينما في العالم قبل أن تتغير شيئا فشيئا، ولا يزال العرب والمسلمون من أقل الفئات تمثيلا على الشاشة الفضية إن لم يكونوا الأكثر تشويها فيها. ولذلك، هناك حالة تربص وقلق حين تحاول السينما أن تقترب من عقائد وأديان فئات تجاهلتهم كثيرا وشوهتهم طويلا.
تسيس التاريخ
المشكلة الأخرى في فيلم “سيدة الجنة” أنه أقحم السياسة في تفسير السيرة النبوية الشريفة من باب العنف، وأظهر أن سبب عنف تنظيمات مثل داعش وغيرها هو سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما. وهنا يزداد الوضع تعقيدا؛ لأن الفيلم تجاوز تقديم وجهة نظر تاريخية إلى ربط العنف السياسي بمذهب معين.
فالقصة تقدم محورا في عصرنا الحالي يظهر أعمال تنظيمات داعش وغيرها، كما يظهر المحور الآخر في قصة السيدة فاطمة الزهراء وعصرها. وهنا يظهر السؤال مجددا، إلى أي مدى من حق المبدع أن يخلط الديني بالسياسي بالتاريخي لتقديم ما يعن له؟ قطعا، باب الإبداع ليس مفتوحا على مصراعيه أمام إثارة الحساسيات والنعرات المذهبية والطائفية. والأمر يتعلق تحديدا بنزع الإنسانية عن مذهب معين وربطه بحوادث العنف والإرهاب السياسي الذي تعاني منه دول عربية عديدة، وامتد ليشمل المدن والعواصم الغربية.
في أثناء إعدادي رسالة الدكتوراه، أتيحت لي فرصة الاطلاع على عملية تطوير السيناريو التي تخضع لها الأعمال الدرامية التي تنتجها شبكة “بي بي سي” (BBC). وفي أثناء المعالجة الأولية لأي عمل درامي سواء مسلسل أو فيلم أو غيره، يتم إجراء بحث تاريخي وسياسي وإنساني إذا تعلق الأمر من قريب أو بعيد بتجسيد حدث معين في التاريخ أو السياسة حتى ولو كان لب الفكرة والعمل خياليا. الهدف من هذا البحث التاريخي المعمق -الذي تشرف عليه عدة أقسام في الشبكة- هو ضمان ألا يسيء العمل بقصد أو من دون قصد بفئة من الناس أو يقدم تفسيرا شاذا أو غريبا أو يحمل وجهة نظر طائفية أو مذهبية أو حزبية عن حدث سياسي أو واقعة تاريخية تشي بأن العمل ينحاز لهذه الفئة أو تلك. وهذه القواعد لم تولد مع تأسيس “بي بي سي”، لكنها تطورت مع الوقت ومع كثرة الشكوى الحكومية والحزبية والشعبية من المزج بين السياسي والتاريخي والدرامي حتى وصلوا لهذه الصيغة التي لم تخضع للاتهام بالحجر على حرية التعبير.
لم يكن القائمون على فيلم “سيدة الجنة” يعجزون عن جعل المعالجة تركز على الدور الجليل الذي قامت به السيدة فاطمة الزهراء وسيرتها العطرة ودور هذه السيرة في عالمنا المعاصر سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي. وقتها، كان الفيلم سيعد خطوة مهمة تسد فجوة في الإنتاج السينمائي العالمي، الذي لم يعرف أفلاما مشابهة تجسد العصر الإسلامي الأول منذ أكثر من 4 عقود حين عرض فيلم الرسالة للمخرج الراحل مصطفى العقاد. وكان سيعد عملا مهما في مواجهة تيارات الإسلاموفوبيا المتصاعدة وحملات الكراهية ضد العرب والمسلمين. لكنهم آثروا الدخول على عالم الجدل المذهبي من أكثر أبوابه إشكالية، وهو إظهار الرموز الدينية للمذهب المخالف بشكل منفر وربطها بحوادث منبتة الصلة عنها لدعم وجهة نظرهم.
لعل النقطة الإيجابية الوحيدة في هذا الفيلم أنه أظهر لكثيرين في العالمين العربي والإسلامي أن العمل السينمائي المبني على قصة دينية أو سياسية ليس بعيدا عن دور السينما في العالم. وأن قرار إنتاج هذه الأعمال لا يتطلب ميزانيات خيالية. كما أن انكباب شركات الإنتاج العربية على صرف الملايين في إنتاج أعمال درامية للعالم العربي ينبغي ترشيده، لإنتاج أعمال أخرى موجهة للعالم لتقديم الثقافة والتاريخ العربي والإسلامي في مواجهة حملات الكراهية والتشويه، مع العلم أن هذه الأعمال مربحة أيضا ربما أكثر من الدراما العربية.