اثار كتاب وزارة التعليم العالي الى الجامعات العراقية بتسهيل مهمة «مبلغي» الأمانة العامة للعتبة الحسينية استغراب وتساؤلات الكثير من الأكاديميين العراقيين. ويأتي هذا في الوقت الذي تشتد فيه التدخلات السياسية في شؤون الجامعات العراقية وارتفاع الاصوات المطالبة باستقلالية الجامعات، وبإنهاء المحاصصة، وبالاعتماد على الكفاءات المغيبة حاليا، وتطبيق معايير ضمان الجودة في التدريس والبحث.
وكالعادة تأتي مثل هذه القرارات بصورة اوامر ادارية من الوزارة، وما على الجامعات الا تنفيذها.. لا نقاش ولا حوار ولا مراجعة.. نفذ ولا تناقش! الطريقة التي تفرض فيها قرارات الوزارة غريبة، فهي تمثل دراكونية وسلطة شمولية، وتبدو بالضد من سياسة الوزارة العلنية في منح الجامعات لا مركزية في ادارتها. فبدلا من طرح الموضوع على المناقشة واخذ آراء التربويين واساتذة العلوم الاسلامية وإدارات الجامعات ودراسة ردود الفعل المحتملة يحمل الامر الاداري قرار نهائي لا تعرف درجة عقوبة من لا يسعى الى تنفيذه، وكأن الجامعات بلديات والتدريسيين عمال نظافة.
والغريب ايضا ان القرار يطلب بفسح المجال امام رجال الدين والمبلغين بإقامة برنامج التبليغ الديني وكأن الجامعات مراكز الحاد وكفر. والوزارة بذلك تفتح الباب واسعا امام اساتذة الجامعات لطرح العديد من التساؤلات ومنها:
لماذا يتم اقحام الدين في قضايا ليست من شأن الجامعات؟ هل يمكن اعتبار اثارة قضايا تتعلق بمعتقدات الطلبة خارج الصفوف هي جزء من التعليم الذي تمارسه الجامعات؟ وهل يراد من برنامج التبليغ الجامعي دعم (أو لربما تقويض) مناهج التعليم الديني في الكليات والاقسام المختصة بالعلوم الاسلامية والتي قلما تفتقدها الجامعات الحكومية، ويتواجد ايضا لتدريسها عدة كليات أهلية متخصصة. يبدو ان اقحام الدين في شؤون الجامعات ِشأن لا يمكن كبح جماحه عند المؤسسة الدينية كما هو عليه اقحام السياسة عند القوى السياسية المهيمنة.
وسبقني احد التربويين بالتساؤل لماذا يسمح لرجال الدين من العتبة الحسينية فقط من دون رجال الدين للمعتقدات الاخرى؟ ماذا لو تطلب الامر السماح لرجال دين من الطائفة السنية والأديان المسيحية واليزيدية والمندائية باقامة برامج “تبليغ” جامعي على غرار ما تزمع العتبة الحسينية من اقامته؟
من هم هؤلاء المبلغين؟ هل هم رجال دين معممين أو أكاديميين متدينين، وما هي خلفياتهم السياسية والدينية والاجتماعية؟ هل هم مبشرين لطائفة معينة ولأفكار محددة؟ هل للعراقيين معرفة سابقة بالمبلغيين؟ وهل معلوماتهم الدينية اكثر غزارة وأهمية من اساتذة العلوم الدينية في الجامعات لكي يحلّوا محلهم، او يضيفوا لهم في “تثقيف” الطلبة داخل اسوار الجامعات؟ الا يمكن ان يعطي اساتذة الجامعات محاضرات اضافية حول الشؤون الدينية بدلا من استقدام رجال دين من خارج الجامعة؟ الا يمكن ان يثير هذا الاسلوب من التعليم حفيظة اساتذة الدين المتخصصين؟ ام ان رجال الدين القادمين من خارج الجامعة لهم اهداف ومعلومات غير تلك التي اعتدنا عليها في تعليم الدين.
ماذا تريد جهة دينية من ترويج أفكارها داخل الجامعات، علما أنها تملك جوامع وحسينيات ومؤسسات دينية وقنوات ومواقع إعلامية عديدة تملأ البلاد بها؟ القنوات الدينية الاسلامية بانماطها وتقسيماتها الوعظية والفكرية تدخل البيوت والمكاتب والمقاهي وحتى المؤسسات التعليمية وتمارس عملية “التوجيه”، فهل هذا غير كافي لممارسة التربية الاسلامية؟ وهل الجامعات تحتاج الى قنوات جديدة تتخذ من الدين ستاراً للصراعات السياسية ولربما الى مزيد من التشدد والغلو، بل وعنف الخطاب في ظل تناقضات وصراع مواقع القوى؟
هل لمثل هذه الفعاليات علاقة بجودة التعليم؟ هل ستساعد في تحسين الجودة أم انها ستقوض الجودة وكفاءة مؤسسات التعليم العالي؟ هل لهؤلاء المبلغين ثقافة ومعارف دينية وإنسانية تفوق معارف الاكاديميين وطلبة الجامعات؟ وهل سيقوم المبّلغ بتبليغ اساتذة وطلبة الجامعات بتلقينهم عبر خطب الوعظ الديني وهم الذين اعتادوا على التفكير النقدي والتساؤل؟ لا اتهم احدا بأنه سيسيء استخدام هذه المنابر، ولكن قد يحدث ذلك في اجواء مشحونة بالصراع الطائفي، فهل سيسمح بالنقاش ودحض الافكار المسيئة للوحدة الوطنية؟ انا اعتقد بأن الثقافة والمعرفة الدينية لأساتذة كليات العلوم الدينية وطلبة الدراسات العليا لكافية للتوجيه والارشاد الديني اذا ما ارتأت الجامعة من ذلك. فلماذا ندعو رجال دين من دون تمحيص لمستوياتهم العلمية لالقاء خطب خارج الصفوف المقررة؟
«التبليغ الجامعي” هو باعتقادي تربية دينية ذات محتوى ضيق لمواجة التيارات العلمانية والمدنية وتلك التي تروج من قبل الطوائف الأخرى، وهو توظيف لازدواجية التعليم الرسمي والديني والذي فشل في بناء المواطنة، وترسيخ الفكر العلمي والنقدي الذي يساهم في تطوير الواقع الإنساني والرقي به. وهو محاولة تعويض النهضة العلمية والتكنولوجية والتي لم تتحقق بالقيم الدينية.
سؤال آخر مهم: هل سيشمل هذا التبليغ اقامة فعاليات الشعائر الحسينية ومجالس العزاء الحسيني داخل الجامعات العراقية؟ في عدد من السنوات تم منع اقامة مثل هذه الشعائر بداخل الجامعات وكانت قرارات جيدة ساعدت في اشاعة اجواء العلم والمعرفة ومنع نشوب الصراعات الطائفية. بما اننا نجهل محتوى التبليغ الجامعي فإننا لا نستطيع ان نتأكد من ان الشعائر الدينية لن يتم ممارستها داخل الجامعات.
هل تتناسب طبيعة هذه الفعاليات مع اهداف التعليم العالي في بناء مجتمع عراقي حضاري ومثقّف ومسالم ومتماسك ومنسجم بدون صراعات طائفية وغيرها من الصراعات التي ابتلى بها الشعب العراقي ومزقت نسيجه الاجتماعي، وبطريقة تنتج وتنشر المعرفة المتعمقة المتعلقة بمجالات الحياة العلمية والإنسانية والتكنولوجية، ومن خلال إعطاء منظور أوسع للعالم؟
هل يمكن للوزارة ان تطلب من الجامعات تسهيل مهمة قوى التغيير في الدعوة الى برنامج التطوير الجامعي اسوة بمبلغي الأمانة العامة للعتبة الحسينية؟ والمتضمن، تطبيق اللامركزية وتدريب القوى العاملة المؤهلة، وإلغاء المحاصصة، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والقضاء على الفساد المالي والأكاديمي وهدر الموارد، والغاء الدراسات المسائية او البرامج التي لا تستوفي شروط ومتطلبات سوق العمل وتحقيق الكفاية من الخدمات الطلابية.
ويبقى سؤال لابد للوزارة من الإجابة عليه وبكل شفافية: كيف وافقت الوزارة وهي المعروفة في إحكام القبضة على الجامعات وما يجري بداخلها من المناهج إلى أزياء الطلبة وفعالياتهم، على إقامة برنامج التبليغ الديني وهي لا تعرف مضامينه ولربما حتى لا تعرف اهدافه؟ ما هي مفردات منهج التبليغ؟ بماذا سيتم تبليغ التدريسيين والطلاب؟ هل هناك رسالة دينية جديدة تود الامانة العامة للعتبة الحسينية، مع احترامي لها، من ايصالها للأكاديميين والطلاب؟