مقاصد الرموز و الدلالات في ورقات الغيم للشاعر التونسي البشير عبيد… بقلم الناقد المصري فتحي محفوظ…..
الشبكة مباشر
قراءة نقدية
ورقات الغيم 1/3
البشير عبيد – تونس
ربما غاب عن العيون صهيل الخيول
و نام الرجل الشريد على رصيف
الحكاية
لم تكن البلاد التي اسمها الخضراء
تبحث عن الينابيع في عز الظهيرة
بل كانت القوافل الاتية من اقاصي
الشمال
ترمم أخر ما تبقى من القلاع…
اسراب من حمام حضرموت
يحلق بعيدا
و الاجنحة لا تخاف من رايات الجنوب
المتاخم للأنين
هذا بريق المعركة أم لهيب الحساب
الاخير؟
هذا طريق الفاتحين باتجاه الغروب
أم درب الخارجين عن حياض
القبيلة؟
واقفا على أرض ثابتة
و عيناه باتجاه الاقاليم البعيدة
يباغت خصوم الوردة قبل اعلان
الرحيل
و انفتاح المرء على مرايا الكلام الفصيح
ها هنا جدار قديم
و ولد جريح
و ارتماء الجسد العليل في المياه
أصوات العنادل غابت عن المشهد
و صار بإمكان الأصابع ان ترفع الرايات
قريباً من التخوم
بعيدا عن صمت القرى
و انحناء الجباه
هنا كيان و سيرورة حذو الغياب
و أولاد لا يخافون من ديمومة
الأشياء
ربما لم يكن في الحسبان هروب الفتى
من صدى الأمنيات
و انفتاح الرؤى على المكان القصي
اقلام تكتب النشيد المشاكس
و أصوات الغرباء تباغت الأجساد
ليس في السفينة ربان و لا مسافرون
ليس في المدينة الهاربة من الأضواء
عشاق للزمن القديم
بل مازال في الوقت متسع لإغراق
المراكب …
و اقتراب الضفاف من الينابيع
الأنهار هي البوصلة
و الاقمار هي المفاتيح
و الأزهار هي الروح المسافرة إلى الدهاليز….
سماء القرى تضيء الدروب
و زفرات الجريح الأخير
تربك ورقات الغيم
حين تكون وحيداً جالسا على رصيف
المتاهة
يباغتك الفتى بالصراخ
أنت الآن خارج الاسوار
و لا أحد يسألك عن جراح البلاد
التي سافرت إلى ملكوت الغياب
هنا يداي تسأل العالم
عن خطاي كيف اخذتني إلى السراب
للشاعر والمحلل السياسي التونسي البشير عبيد ورقات يعرضها للبيان في قصيدته المثيرة ورقات الغيم ، وعرض الورقات لم يكن اكثر من تعبير بالمكاشفة عما يمكن ان يكون قد اغفلنا رؤيته في محيط المشهد السياسي ، وعن الوقائع السارية داخل المحيط العربي يبدأ انشاده
” ربما غاب عن العيون صهيل الخيول
و نام الرجل الشريد على رصيف
الحكاية ”
وشاهد العيان يدعوه النص بالرجل الشريد ، وربما كان هذا هو اللقب الجديد للشاعر والمحلل السياسي نفسه , وهو يبدأ انطلاقاته من نقطة ارتكاز . هذا يدعونا الي الاعتقاد بوجود نقطة ارتكاز تتعلق بمفهوم رصيف الحكاية ، وهو تعبير مجازي عن نقطة الانطلاق ، او الليلة الأولي من الألف ليلة وليلة , في حين تنبثق العلامات الشبيهة بالومضة ، وهي العلامات المثقلة بالتراث عن ادوات الحرب وآلاتها ، ومن ثم علينا جميعا واجب الاصغاء الي ما أسماه النص صهيل الخيول .
” لم تكن البلاد التي اسمها الخضراء
تبحث عن الينابيع في عز الظهيرة
بل كانت القوافل الاتية من اقاصي
الشمال
ترمم أخر ما تبقى من القلاع… ”
ونقطة الارتكاز إذن تنطلق من تونس الخضراء ، وهي الموطن والمعقل ، وفيها آخر ما تبقي من قلاع ، والقلعة الأخيرة علامة من علامات التاريخ المندثر ، فالموضوع يتشعب في اتجاهين : يمثل احدهما الحاضر , فيما يسعي الآخر داخل العمق التاريخي والزمني ، ويسود لدينا الاعتقاد بتضارب وتناقض الاتجاهات داخل المصفوفة الزمنية . البحث عن الينابيع وقت الظهيرة وترميم القلاع الأثرية
وتتوالي الأوراق …
” اسراب من حمام حضرموت
يحلق بعيدا ”
ينطلق الفزع من حضرموت اليمن علي هيئة اسراب جافلة من الحمام الوديع , انه الحمام الذي يولي اتجاهه شطر المكان البعيد عن الصراع ، والصراع محكوم بآلياته ودوافعه
” هذا بريق المعركة أم لهيب الحساب
الاخير؟
هذا طريق الفاتحين باتجاه الغروب
أم درب الخارجين عن حياض
القبيلة؟ ”
ولعل التنازع القبلي في مضمونه لم يكن ليعكس طبيعة الأوضاع اليمنية تماما ، فهو التنازع الذي يستمد قوامه عبر تداخلات وتنازعات علي مناطق النفوذ ، فيما يختبئ خلف هذا المشهد الدامي قوي اقليمية وعالمية ، ويبقي امامنا ذلك المشهد الكئيب : تفرق وتشرذم الجماعة بالخروج عن حياض القبيلة
” واقفا على أرض ثابتة
و عيناه باتجاه الاقاليم البعيدة
يباغت خصوم الوردة قبل اعلان
الرحيل
و انفتاح المرء على مرايا الكلام الفصيح ”
يعود الشاعر والمحلل السياسي والشريد في ثوبه البلاغي ليعلن عن موقفه الراصد للأبعاد علي طول المساحة وعرضها ، فيما يبدأ في انفتاحه الحي علي النص بمقوماته البلاغية ، والصورة في تلك الحالة هي صورة مفعمة بالأسي قد تتجاوز حدود الفخر لتصل الي حدود الندب والرثاء
” ها هنا جدار قديم
و ولد جريح
و ارتماء الجسد العليل في المياه ”
ان جزءا من المشهد العام يحتوي علي اشاراته المسبقة , التاريخ علي شكل جدار قديم ، وهو امتداد لصورة القلعة الأخيرة , وولد جريح وهو امتداد وربما تطوير لحالة الفزع التي استشعرت بها اسراب الحمام الوديع ، واشارات اخري تعتني بقياس حالة الوطن الممزق والعليل وهو يدفن جسده في المياه رغبة منه في الخلاص من همومه واوجاعه
” و صار بإمكان الأصابع ان ترفع الرايات
قريباً من التخوم
بعيدا عن صمت القرى
و انحناء الجباه ”
وقيام الجسم بالغوص في المياه ربما كان نوعا من الخلاص من أسقام الجسد العليل وندوبه ، وهو نفسه ذلك الخلاص الذي عبر عنه الشريد في اشارات النص في تكوينه البلاغي برفع رايات المقاومة .. نفس المقاومة التي رصدها المشهد في ايجاز جامع : ضد الصمت وانحناء الجباه
وينطلق النشيد ليفتح اوراقا اخري ..
” هنا كيان و سيرورة حذو الغياب
و أولاد لا يخافون من ديمومة
الأشياء
ربما لم يكن في الحسبان هروب الفتى
من صدى الأمنيات
و انفتاح الرؤى على المكان القصي ”
وتبرز الاشارات الموحية الي مكان بعينه عبر الترديد الواعي داخل النشيد , ويبدو اننا قد استوعبنا تلك الإشارات في مضمونها الحي : المكان الاقصى والكيان ، وعلي صعيد متصل قبول ذلك الرباط بين رفع الرايات , ومقاومة الضعف والتخاذل بمشهد اولاد لا يخافون مما اطلق النص عليه بديمومة الأشياء . انه ذلك النوع من الترابط الذي يحتوي علي كافة افعال المقاومة ، وبالمثل يحتوي علي تلك العلامات التي تقوم بتهيئة الوعي لقبول سنن التغير في ديمومة الأشياء
” حين تكون وحيداً جالسا على رصيف
المتاهة
يباغتك الفتى بالصراخ
أنت الآن خارج الاسوار
و لا أحد يسألك عن جراح البلاد
التي سافرت إلى ملكوت الغياب
هنا يداي تسأل العالم
عن خطاي كيف اخذتني إلى السراب ”
وفي هذا المجال يتحول رصيف الحكاية كما يراه الشريد الي رصيف المتاهة ، والمتاهة هو الفعل المناظر لحالة التيه وعدم الفهم : البلاد تئن بالجراح ، والخطوات قد تأخذنا الي السراب ، والسراب يقود الشريد لطرح سؤال . انه السؤال الذي عبر عنه الشريد في صورة خطاب الي ضمير العالم