الأنساق الثقافية في مسرح ما بعد الحداثة
* د . ياسر عبد الصاحب البرَّاك
فرضت المفاهيم الجمالية الجديدة لفلسفة ما بعد الحداثة نسقاً ثقافياً متعدد الأساليب ولّد بدوره أنماطاً فنية مغايرة في الحقل الفني عموماً والمسرح على وجه الخصوص ، تلك الأنماط التي إتخذت من التمرّد آلية لها في التعامل مع ثوابت الأعمال المسرحية الحداثوية وخلخلت مرتكزاتها الرئيسة لتخلق منها ( مسرح ما بعد الحداثة ) الذي يقوم على الجمع بين الأداء الحي والفنون التشكيلية لتحقيق عمل فني قائم بذاته ، حيث عملت الأعمال المسرحية ما بعد الحداثية على خلق وتشكيل صور من المرئيات القلقة والمتقلبة والمتناقضة مع كل التعريفات والقواعد التي تحمل الطابع المسرحي ، فبرز الرقص أو ( الكيروغراف ) بوصفه فناً متحرراً من قيود الجنس الفني حيث يحتفل بالطاقة التعبيرية للجسد الإنساني عبر إيجاد علاقة جدلية مع الفضاء العام والعناصر البصرية المكونة له من جهة ومع الجسد بوصفه علامة ديناميكية من جهة أخرى ، فيصبح الرقص ” تجسيداً خارجياً يرتبط فيه التعبير الجسدي عن المشهد الطبيعي الداخلي للنفس بالخصائص الشكلية للرقص كأحد وسائط التعبير . وهكذا تصبح الوظيفة التعبيرية للرقص أمراً يتخطى مجرد إنتهاج أسلوب معين أو السعي إلى التعبير عن شيء معين ، بل تصبح طاقة تكمن داخل الشكل نفسه كأحد الخصائص المتأصلة في الطبيعة الأساسية للحركة . ” ، وبناءً على هذه التصورات ما بعد الحداثية لمفهوم الحركة والرقص ، يصبح الجسد ما بعد الحداثي نسقاً ثقافياً يؤدي وظيفة الإبلاغ عن محمولات فكرية وجمالية تتحكم بإنتاجها البنى الإجتماعية المولّدة لهذه الأنساق الثقافية .
تستند الأنساق الثقافية في مسرح ما بعد الحداثة على الأنساق الفلسفية التي تحدَّثت عن ميتات عديدة بدءً من ( موت الإله ) عند نيتشه ، ومروراً بـ ( موت السرديات الكبرى ) عند ليوتار ، فضلاً عن ( موت الإنسان ) لدى فوكو ، وإنتهاءً بـ ( موت المؤلف ) في مسرح ما بعد الحداثة في ذات الوقت الذي يُعلن فيه صراحة عن ( موت الشخصية ) ، لذلك نجد هذا المسرح يقوم بإستبعاد الشخصية والحبكة بالمفهوم الأرسطي ، حيث يتم إستخدام عناصر العمل المسرحي الأخرى بشكل متعادل ، إذ يتم تقديم الإضاءة وتصميم المشاهد والموسيقى ، فضلاً عن العناصر السينوغرافية الأخرى بشكل مستقل مثلها مثل الممثل ، فالعناصر الأرسطية موجودة لكن تسلسلها يتوقف على طريقة إستخدامها من الناحية البنيوية الحديثة على حساب التصوّر الكلاسيكي وتقف في مقدمة ذلك عنصري الحبكة والشخصية ، إذ يتميز ” ذلك المسرح برؤية كلية تختفي فيها الشخصية الفردية ، لنرى المسرح كمنظر طبيعي كامل في مرمى البصر طوال الوقت … يلمح فنانو ما بعد الحداثة بهذه الطريقة إلى إمكانية مسرح تنتهي فيه مركزية الإنسان بوصفه المدار الذي يدور حوله كل شيء في البيئة في صالح إنتصار البيئة نفسها . ” ، وهذا يعني أن مسرح ما بعد الحداثة يُميت المؤلف بإماتته للشخصية ، لذلك نجده يُعطي بذلك الدور الرئيس للمخرج الذي يكون مسؤولاً عن إنتاج لغة العرض عبر قدرته على تحقيق الإنسجام في العناصر السينوغرافية من دون غلبة لعنصر فني أو أدبي على حساب بقية العناصر الأخرى .
ويستثمر المسرح ما بعد الحداثي كذلك إنهيار اللغة العامة بوصفها واحدة من السرديات الكبرى التي دعا إلى تفكيكها وكشف الأوهام التي تخلقها ، حيث يقوم بتأمل السياقات التاريخية والثقافية للغة من أجل أن يصوغ نفسه ، إذ أنه يعد مختلف التقاليد الثقافية والتاريخية بوصفها مصدراً هاماً للعلامات ، فالتاريخ في مسرح ما بعد الحداثة يمثِّل مخزناً للعلامات المُتاحة للممارسة المسرحية ، لذلك نجده يستخدم التعددية والجماعية في أسلوب تناول العملية المسرحية ، وهذه التعددية عملت على تقويض مفهوم تتابع الأحداث لدى أرسطو ، أو مفهوم ( السبب والنتيجة ) الهيجلي ، وهما مفهومان ينتميان لمسرح الحداثة ، بينما يتميز مسرح ما بعد الحداثة بتعدد الأبعاد والآنية ، الأمر الذي يجعله لا يخضع لإسلوب واحد ، وإنما تتعدد أساليبه ومن ثم تتعدد أنساقه الثقافية ، فتصبح لكل تجربة مسرحية نسقها الخاص بها الذي ينطوي على السمات الجمالية التي لا تشبه غيرها ، لكنها في ذات الوقت تشترك مع غيرها بجماليات خاصة هي التي كوّنت الجماليات الخاصة بفنون ما بعد الحداثة .
يستخدم مسرح ما بعد الحداثة أيضاً عدّة أساليب أخرى يكسر بها طوق التراتبية في الأحداث التي قننها أرسطو ، حيث يستخدم أسلوباً في الصياغة النصِّية عبر إستخدامه لتقنية ( بين النص Inter text ) أو ما يسميه فريدريك جيمسون بـ ( ثقافة المقاطع ) عبر إستخدام عدَّة نصوص للتعليق على بعضها البعض ، إذ أنه يمكن عبر هذه الأساليب الوصول إلى الحقيقة التي يمكن أن تكون متاحة عبر عالم الإيهام الذي تخلقه تقنية ( المسرحة ) ، فالتقاليد المصطنعة التي يستخدمها المسرح يمكن أن تكون فاعلة في معرفة الحقيقة إذ يمكن إستخدامها بوصفها وسيطاً للتعبير عن الحقائق . لكن هذا الإيهام لا يغور بعيداً ، فالممثل في مسرح ما بعد الحداثة على الرغم من إستعداده لأداء الشخصية التي يجسدها ، إلا أنه يجلس على الكرسي جانباً في إنتظار أن يأتي دوره ، ثم يقوم بتجسيد كل من ذاته كممثل ، فضلاً عن الشخصية التي يلعبها ، إذ أنه موجود بوصفه ممثلاً وشخصية في المسرحية في ذات الوقت ، ولكن على مستويات وأبعاد مختلفة ، بمعنى أنه يوجد بدنياً وآنياً على خشبة المسرح .
كذلك يتميز مسرح ما بعد الحداثة بصيغة الإنتاج المسرحي ، فهو يدعو إلى توجه جديد من المشاهدين أيضاً ، فالتطهير الأرسطي يصل إلى أقصى درجات غموضه في المسرح ما بعد الحداثي ، وتعتمد التجربة الجمالية على صناعة المعنى لأنها تتجلى في العملية ما بعد الحداثية إذ هي أقرب ما تكون إلى التسامي الكائني ، وبعكس دراما أرسطو التطهيرية التي تخضع متلقيها إلى توجه مؤكد نحو الإيهام التمثيلي للدراما الكلاسيكية والدراما الحديثة ، ويقرر كانط أن المسافة ضرورية من أجل تحقيق المتعة والإشباع الجمالي ، ويقترح بريخت في المقابل ( رؤية مركبة ) في المسرح ، وهي رؤية لابد من ممارستها لأن تصل ما وراء تدفق المسرحية وأهم بكثير من التأمل داخل تدفق المسرحية ، فالنسق الثقافي الذي يخلقه مسرح ما بعد الحداثة يتقاطع كلياً مع الأنساق الثقافية لمسرح الحداثة بتجلياته الجمالية العديدة .
إنعكست تحولات الأنساق الثقافية في فلسفتي الحداثة وما بعد الحداثة على التجارب الإخراجية المعاصرة بوصفها خطابات مركبة من نصوص أدبية وعناصر بصرية أخرى مثلت في جوهرها إعادة صياغة للمفاهيم القارّة التي كانت سائدة قبل هاتين المرحلتين بدءً من النسق الثقافي الكلاسيكي القديم الذي مثَّل معظم نتاجات المسرح الإغريقي والروماني ، فضلاً عن العصور الوسطى ، ومروراً بالأنساق الثقافية التي بدأت تتشكل مع بروز تيارات ومذاهب مسرحية جديدة مثل الكلاسيكية الجديدة والرومانسية حيث شكَّل هذان النسقان المقدمة المهمة لظهور النسق الواقعي مُمثلاً في العديد من التجارب الإخراجية وفي مقدمتها تجربة الدوق ساكس مننغن ومن بعده قسطنطين ستانسلافسكي ، وإنتهاءً بالأنساق الثقافية الحديثة التي تمثلت في المدارس الإخراجية الجديدة مثل الطبيعية والرمزية والتعبيرية والسريالية ، فضلاً عن التيارات الإخراجية في مسرح ما بعد الحداثة ، ويمكن القول أن جميع هذه الأنساق كانت من الناحية المسرحية عبارة عن أنساق كلية ضمت بدورها أنساقاً جزئية أو ثانوية شكَّلت عملية إثراءٍ واضح لتلك الأنساق ، ونجد عبر القراءة الثقافية لهذه الأنساق أنها كانت على الدوام متحولة من ثقافة لأخرى ومن تجربة إلى ثانية ، إذ أن هذه الأنساق على الرغم من ثباتها النسبي ، إلا أنها في كل الأحوال كانت تفرز على الدوام أشكالها الفنية والجمالية المتميزة .