الهروب صوب إسطنبول
#الشبكة_مباشر_إسطنبول_د. كاظم المقدادي
يطلب المرء اللجوء او الهجرة الى البلدان ، لأسباب انسانية ، قد تكون شخصية ترفيهية سياحية ، او لصعوبة تحقيق الشرط البشري والعيش على ارضه وفي وطنه .. وربما لاسباب سياسية ، او معاشية .
وهناك سبب اخر ومهم .. يتمثل بوجود روح المغامرة ومحاولة اكتشاف البلدان ، والتمتع بجمال السواحل والشطآن . ومن هنا نشأت فكرة كتابة (ادب الرحلات) وسادت في العصر الحديث ، وفي غابر الزمان .
ولعل اشهر الذين مارسوا هذا النوع من الاسفار الى اقصى البلدان ، وما وراء البحار .. هو المغربي ابن بطوطة ، في كتابه الشهير “تحفة النظار في غرائب الاسفار وعجائب الامصار ” ، والمصري رفاعة الطهطاوي بكتابه المهم عن باريس “تخليص الابريز – في تلخيص باريز ” .
اما انا فقد سافرت الى باريس طمعا بأكتشاف اجمل مدينة في اوربا ، وطلبا للدراسة ايضا .. لكن لا اخفي ايضا ان المضايقات التي حصلت لي في كلية الاداب وسط السبعينيات ، بعد ترشيحي للانتخابات الجامعية بقائمة مستقلة ، بحثا عن هوية جامعية حرة غير حزبية ، كانت حافزا لتحقيق فكرة السفر الى فرنسا ، للهدي بهدى .. انوارها وطروحات فلاسفتها ، وكنوز متاحفها ، ومشاهدة اروع اللوحات بريشة رساميها ، والاقتراب من هوس نسائها ، وشم عطورها . وتقليعات ازيائها ، وثورة طلابها ، وحتى التبصر في مقابر كلابها .
كان وجودي الارادي في باريس ، رائعا ومهما في مراحل تكويني المعرفي ، وفهمي الفلسفي .. الى ان نتج عنه تأليف كتابين “البحث عن حرية التعبير” وكتاب ثان هو ” اوراق باريسية” مع شهادة دكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية .
كتابي الاول عن “التيارات الفكرية في الصحافة المصرية المهاجرة ” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1850 , وقد حالفني الحظ بالعثور على النسخ الاصلية في المكتبة الوطنية بباريس مطبوعة باللغة العربية ، وقد ناقشت اطروحتي نهاية سنة 1979 في جامعة السوربون .. وتعد اول محاولة فكرية متوقدة ، وانا في العشرينات من عمري فطرت فرحا بالشهادة ، وبكل ما هو مفتون .
والجميل في سفراتي .. اني لا استكين ولا استسلم ، لوضع لايناسبني ، فعندما اكون مضطرا لمغادرة الوطن برحلة اجبرت عليها كما حدث سابقا الى باريس ، ولاحقا الى اسطنبول ، احاول تكييف نفسي واوضاعي لكي اكون جاهزا لكل الاحتمالات .
في الواقعة الاخيرة ..كنت مضطرا مغادرة بغداد ، الى السليمانية ، وصولا الى اسطنبول .. بسبب التهديد العملي والجدي بالقتل .. الذي سببه ، سوء فهم لحديث لي كان يبث بشكل مباشر على الفضائية العراقية .
وكان من المفترض ان اطلب اللجوء الى باريس بدلا من الذهاب الى اسطنبول .. وقد اتصل الصحافي و الصديق الاستاذ سعد المسعودي من العاصمة الفرنسية ، طالبا مني اللجوء السياسي الى فرنسا ، بعد ترتيب دعوة من منظمة ( مراسلون بلا حدود ) التي اصدرت حينها ، بيانا ادانت فيه الممارسات التعسفية التي تهدد حرية التعبير للصحفيين العراقيين .
شكرت زميلي المسعودي وقلت له :
” ذهبت الى باريس شابا ، وكنت مضطرا ولكن برغبة مني .. فكيف اعود اليها اليوم ، وانا بعمري هذا .. ثم ان فكرة ان اكون لاجئا في باريس تدمر كل الذكريات الجميلة التي ظلت عالقة بذهني ، و بتجربة خضتها في عز شبابي .
لحسن الحظ .. كان قرار سفري الى اسطنبول ، وحصولي على الاقامة ، فرصة لطرد كل الاوهام والقلق ، وانقاذ النفس من هواجس اللجوء ، وهواجس الغربة ، وارهاصات المنفى ، واحتمالية الابتعاد عن الوطن الى غير رجعة .
لقد وجدت في عاصمة السلاطين الامان والجمال ، وسط مدينة رائعة باذخة في الصورة والكمال ، تفتح قلبها لكل من قدم اليها .. لاجئا ، او سائحا ، او مقيما .. على ارضها المعطاء ، في التسكع والترحال .
في اسطنبول ايضا .. حصل معي كما حصل في باريس من انجاز علمي وادبي .. فقد استطعت تكملة كتابي المهم
(جدل الاتصال – استقراء الزمن الحقيقي) قبل سنتين .. و
اليوم بأنتظار صدور كتابي الثاني ” السلطانة – اسطنبول ” تماما وكما وفقت في باريس .. بأصدار الكتابين المذكورين .
اختم ما تقدمت به .. بنثرية حزينة ..كنت قد كتبتها على ساحل بحر مرمرة باسطنبول وفي الايام الاولى لوجودي على الارض التركية :
للبحر اجنحة
انا طائر مهاجر
بلا عنوان
البحر وطني
والنوارس قبيلتي
في زمن تخلت
عني العشيرة
والفرسان
حياتي ..
ومذ كنت يافعا
رسمتها بالوان مائية
كنت امضيها ساعات
على ساحل النهر
متاملا .. محلقا
فوق اجنحة من
غيوم بيضاء
وكان النهر يناديني
لأعوم بكرب
من نخلة بستان
تلكم ..
هي قصتي
ما تبصرتها في فنجان
ولم تكن سطورا
املاها علي معمم
او انزلها
من كان برتبة سلطان
سامضي الى قدري
محلقا على اجنحة الماء ..
من دون كفن
ولا سطوة كفان