قصة العربي المصري الذي جمع تبرعات من أجل الشرطي الفرنسي قاتل الشاب الجزائري نائل
#الشبكة_مباشر_باريس_محمد عزت
طيلة الأيام الماضية، اشتعلت المدن الفرنسية على إثر حادثة قتل الشاب الفرنسي ذي الأصل الجزائري “نائل المرزوقي”، البالغ من العمر 17 عاما، برصاص شرطي فرنسي، وذلك إثر توقيف السيارة التي كان يقودها دون رخصة في ضاحية نانتير بالعاصمة الفرنسية باريس، أسهم تصوير الحادثة بالصوت والصورة وانتشار المقطع المصوّر كالنار في الهشيم في اندلاع انتفاضة استمرت لأيام، ثار خلالها المحتجون والمهمشون وهاجموا مقار الشرطة والبلديات والمراكز التجارية، إذ رأى هؤلاء في الحادث حلقة جديدة في مسلسل جرائم فرنسا البيضاء ضد الضواحي المهمشة وسكانها.
أثناء تصاعد الأحداث بعد ذلك، فوجئ المتابعون العرب بخبر غريب، حين تقدمت أسرة نائل بشكوى ضد سياسي يميني متطرف فرنسي شهير بسبب إطلاقه حملة تبرعات لدعم عائلة الشرطي الذي قتل ابنها. لا تقف المفاجآت عند هذا الحد، فالمثير للدهشة أكثر هو أن هذا السياسي اليميني المتطرف هو نفسه مهاجر مصري لغته الأم هي العربية باللكنة العامية المصرية، ولم يصبح مواطنا فرنسيا إلا في العشرين من عمره، إنه المستشار السابق لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، والمتحدث السابق باسم المرشح الرئاسي السابق إريك زمور الذي قال إنه سيمنع التسمية باسم “محمد” إن أصبح رئيسا لفرنسا، محور قصتنا اليوم هو “جون مسيحة”، أو “حسام مسيحة” قبل الفرنسة، فما قصة هذا الرجل المصري الذي أصبح زعيما يمينيا متطرفا يجمع التبرعات من أجل قاتل الشاب الجزائري؟
رغم أن جون كان قد بدأ حياته يساريا، لكنه سرعان ما وجد طريقه مع النخبة البيضاء، الذي سيثبت عليه بعد ذلك ويبزغ نجمه فيه ليصير من أبرز الوجوه اليمينية في فرنسا.
“أنا عربي على السطح، وفرنسي في العمق”
وُلد “حسام بطرس مسيحة” في سبعينيات القرن لأسرة قبطية ميسورة في القاهرة، تتكون من أب دبلوماسي وأم كيميائية. كانت القاهرة خلال هذه الفترة تختبر تحولات نوعية لم تشهد مثلها منذ سنوات طويلة، إذ انهار المشروع القومي الناصري بهزيمة عام 1967، وشهدت البلاد في هذا العقد مدا كبيرا لحركات الإسلام السياسي حتى الأكثر يمينية منها، كما عرفت مصر فتنا طائفية متكررة تسببت فيها بشكل أساسي سياسات الدولة، فوصل التوتر إلى حد قرار الرئيس السادات بتحديد إقامة البابا شنودة الثالث في دير وادي النطرون عام 1981، وتذكير رئيس الكنيسة القبطية بأنه يعيش تحت راية رئيس مسلم لدولة مسلمة.
تفتحت آذان الطفل حسام على حكايات وأخبار من الأسرة والمحيطين في تلك الفترة أثرت عليه طويلا فيما بعد رغم أنه رحل عن البلاد طفلا وفي عمر 8 سنوات حين انتقل إلى مدينة ميلوز الفرنسية في الشرق قرب الحدود مع سويسرا و ألمانيا، فاندمج وتماهى بقوة مع الحياة الفرنسية، مغيرا اسمه من حسام إلى “جون”، متقنا الفرنسية التي لم يكن يتحدث بها من قبل، ثم تمكن من الحصول على الجنسية الفرنسية في عمر العشرين.
ورغم كونه مهاجرا أصليا من أسرة مهاجرة، يتناسى جون نفسه في بعض الأحيان هذا المعطى، فهو الآن يشكو من أن باريس قد تغيرت تماما عن باريس الثمانينيات، ويحكي بحسرة أن قريبا له يعيش في الولايات المتحدة الأميركية قد زار العاصمة الفرنسية وقال له: “أين الفرنسيون؟ الشارع كله أجانب”، ويشكو جون تغير الشعب الفرنسي ديمغرافيا وكأنه ينحدر من عائلة فرنسية ممتدة حملت جينات الشعر الأشقر والعيون الزرقاء وأصبحت الآن تضجر من رؤية الأفارقة يملؤون شوارعها وأحياءها.
ترك مسيحة حزب “آل لوبان” لينضم إلى اليميني الشهير إريك زمور ويصبح مستشارا له ومتحدثا باسمه خلال فترة ترشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة. (شترستوك)
تخرج مسيحة من معهد باريس للدراسات السياسية عام 1996، ثم المدرسة الوطنية للإدارة عام 2005، وهما أبرز مؤسستين جامعيتين لتفريغ الكوادر للدولة والشركات الكبرى في فرنسا على حد سواء، ليصبح بعدها موظفا مرموقا في وزارة الدفاع الفرنسية، كما حصل أيضا على درجة الدكتوراه في الاقتصاد، ورغم ذلك فمن الصعب أن تخرج بفكر اقتصادي واضح يطرحه، فتعليقاته في هذا الصدد سياسية ومجازية أكثر من كونها آراء متخصص في الاقتصاد، وقد كان حديث الرجل يصب -خاصة في الوقت الذي نسق فيه حملة مارين لوبان الرئاسية- في سياق أن الطريق الوحيد للاقتصاد الفرنسي للنهوض هو أن يستعيد سيادته النقدية، بمعنى اتباع سياسة أكثر حمائية وترك عملة اليورو، كما كان يصف ماكرون بأنه ذو مشروع خطير يريد أن يُدخل فرنسا في دوامة العولمة.
ومن المفارقات من ناحية أفكاره الاقتصادية أن الرجل الذي التحق بالعمل موظفا رفيع المستوى بوزارة الدفاع منذ عام 2005 حتى عام 2016 كثيرا ما انتقد توسع البيروقراطية في الجمهورية الفرنسية وكثرة عدد الموظفين العموميين، لكن تقريرا لجريدة “ميديا بارت” الإلكترونية الفرنسية قد كشف أن القوات المسلحة الفرنسية ظلت تدفع له راتبا لمدة 5 سنوات بعد تحوله للعمل السياسي، حتى أثناء انشغاله بحملاته السياسية والإعلامية، وهو الأمر الذي رفضت وزارة الدفاع الفرنسية التعليق عليه، ومنذ أن بدأ الحديث في فرنسا عام 2019 عن الأمور المالية لـ”جون مسيحة” كتب تدوينة على منصة التواصل الاجتماعي “تويتر” في عام 2020 قال فيها: “أنا لا أُثري نفسي من خلال المال العام، لقد خدمت فرنسا منذ 25 عاما”.
ورغم أن جون كان قد بدأ حياته يساريا، لكنه سرعان ما وجد طريقه مع النخبة البيضاء، الذي سيثبت عليه بعد ذلك ويبزغ نجمه فيه ليصير من أبرز الوجوه اليمينية في فرنسا، ويصبح ضيفا دائما في البرامج التليفزيونية بآرائه اليمينية المثيرة للجدل، فضلا عن نشاطه الواضح على وسائل التواصل الاجتماعي. انضم مسيحة لحزب الجبهة الوطنية في عام 2016، إذ أصبح المتحدث باسم مجموعة “هوراس”، وهي مجموعة من كبار موظفي الخدمة المدنية والمديرين التنفيذيين من القطاع الخاص الذين كانوا يعملون بصفتهم عقل حملة مارين لوبان، ثم أصبح المنسق الرئاسي لمشروع مارين لوبان الرئاسي، كما أنه ترشح في عام 2017 عن حزب الجبهة الوطنية للانتخابات التشريعية، لكنه لم يحقق الفوز.
بعد هذه الهزيمة، ترك مسيحة حزب “آل لوبان” لينضم إلى اليميني الشهير إريك زمور ويصبح مستشارا له ومتحدثا باسمه خلال فترة ترشحه للانتخابات الرئاسية الأخيرة. ويرأس مسيحة حاليا مركز الأبحاث اليميني “أبولون” الذي يهدف إلى أن يكون منصة انطلاق للانتخابات الرئاسية لعام 2027، كما أصبح مسيحة في مارس/آذار 2022 رئيسا لشركة “أرمادا” الاستشارية.
أكثر كرها للإسلام من مارين لوبان
اشتهر مسيحة بالدفاع عن دولة الاحتلال الإسرائيلي مثل صديقه اليهودي ذي الأصول الجزائرية إيريك زمور، الذي يشاركه أيضا تبنيه لنظرية “الاستبدال العظيم”.
كونه عنصريا ضد المسلمين، إذ يؤكد أنه مجرد مدافع عن فكرة علمانية فرنسا، كما يقول إن المشكلة هي أن الإسلام الموجود في فرنسا ليس إسلاما روحانيا فقط، بل إسلام سياسي، وهناك فرق بين جمعيات الإسلام السياسي والإسلام بصفة عامة. يظهر هذا التوجه لمسيحة عادة في الحوارات الهادئة، ولكن من حين لآخر يظهر الوجه الآخر للرجل عندما تشتد المعارك الكلامية.
ربما تتعدد الأسباب التي تقال حول خروج مسيحة من حزب التجمع الوطني في عام 2020، لكن السبب الأكثر ثبوتا هو أن خط الحزب أصبح أقل راديكالية فيما يخص قضايا الهجرة والإسلام والهوية من وجهة نظر مسيحة على الأقل. وقد اختلف الرجل مع لوبان بوضوح حين رأت أن الإسلام بوصفه دينا لا يمثل مشكلة جوهرية في فرنسا، وإنما “الأيديولوجية الإسلامية الراديكالية” هي المشكلة، بينما يرى مسيحة أن الإسلام نفسه هو المشكلة، فالمشكلة بالنسبة إليه في القرآن ذاته، لكنه حين يقول هذا الكلام يحذر من أن يُفهم كلامه على غير ما يقصده، فيقول: “أنا لا أقصد شيطنة زملائي الأعزاء المواطنين والأصدقاء المسلمين الذين يعيشون هنا بسلام، أنا أقول ببساطة إنه كلما اتسع وجود هذا الدين في فرنسا من خلال الهجرة انحسرت فرنسا”.
يرفض مسيحة أيضا توجه لوبان في استخدام كلمة “إسلامي” حين يقوم مسلم بتنفيذ حادث إرهابي، ويفضل استخدام كلمة “مسلم” مباشرة، وعلى جانب آخر تلمح لوبان إلى أن سبب راديكالية مسيحة في التفكير في أمر الإسلام يعود إلى تجربته بوصفه مصريا قبطيا عاش في مرحلة زمنية معينة، وهي التجربة التي ربما ضيقت من أفقه في هذا الشأن. ووصل الموقف المعادي لمسيحة ضد الإسلام والمسلمين إلى حد اندهاشه في تغريدة على تويتر بعد اعتداء نيس من أن المسلمين في فرنسا ليسوا مدرجين “كلهم” على قوائم الإرهاب.
كما اشتهر مسيحة أيضا بالدفاع عن دولة الاحتلال الإسرائيلي مثل صديقه اليهودي ذي الأصول الجزائرية إيريك زمور، الذي يشاركه أيضا تبنيه لنظرية “الاستبدال العظيم”، التي تعني الخوف من أن المهاجرين سيستبدلون المسيحيين الفرنسيين، وسيصبح العرق الأبيض أقلية قريبا مع توافدهم، وستصبح أوروبا مسلمة بعد سنوات قليلة. جدير بالذكر أن حساب مسيحة على تويتر قد أغلق في يونيو/حزيران 2021 بسبب تصريحاته حول الإسلام، ولم يعد الحساب إلا بعد سيطرة إيلون ماسك على المنصة.
ودأب السياسي اليميني أيضا خلال السنوات الماضية على استخدام كلمات عدائية في مشاركاته، مثل “الجذام الإسلامي” و”الغرغرينا الإسلامية” و”الحثالة التي تصب في فرنسا كل عام”، وقد وصف حجاب إحدى مرشحات حزب ماكرون، وهي “نادية العزوزي”، في عام 2021 بأنه “صليب معقوف إسلامي نسوي” في مقارنة واضحة مع النازية، مؤكدا أن فرنسا ستتحرر فقط حين تتحرر من هذه الرموز، معتبرا أنه من الفضيحة بمكان أن يضع شخص على رأسه مثل تلك الرموز الدينية.
لماذا يدعم مسيحة قاتل نائل؟
في خطوة استفزازية جديدة أثناء اشتعال الوضع في فرنسا، أطلق جون مسيحة صندوق إعانة على موقع “جو فاند مي” الأميركي لدعم عائلة الشرطي الذي رُصد بالصوت والصورة وهو يقتل الشاب ذا الأصول الجزائرية، واعتبر السياسي الفرنسي المتطرف أن الشرطي كان يقوم بعمله وأنه يدفع اليوم ثمنا باهظا بسبب قيامه بذلك، مؤكدا على وجوب دعم الشرطة، وهو الأمر الذي ردّت عليه أسرة نائل بشكوى قانونية، متهمةً السياسي اليميني بارتكاب عملية احتيال جماعي منظم، إذ اتهمت الأسرة مسيحة باستخدام سجل نائل الجنائي لتجريمه بشكل غير قانوني بهدف خداع الناس وتشجيعهم على التبرع للشرطي، وجدير بالذكر هنا أن السلطات الفرنسية أكدت أن سجل نائل خالٍ من السوابق الجنائية، وأنه واجه فقط مشكلات متعلقة بإنفاذ القانون لرفضه الانصياع، حيث كان سيمثل أمام محكمة الأحداث في سبتمبر/أيلول القادم.
أشاد مسيحة بسخاء التبرعات التي قدمها الفرنسيون لصندوقه، معتبرا ذلك رمزا تاريخيا للكرم الوطني، وذلك بعدما أعلن إغلاق حملة التبرعات لعائلة الضابط المسجون، وقد أغلق الصندوق بعدما جمع أكثر من 1.6 مليون يورو من خلال 72 ألف متبرع، وتفاخر السياسي الفرنسي المصري بأن الإعانات التي جاءت للشرطي كانت أكثر بكثير من تلك التي توجهت لصالح عائلة نائل والتي شارك فيها عدد أقل بكثير من الناس، فيما عقبت رئيسة وزراء فرنسا إليزابيت بورن على ما فعله مسيحة بالقول إن “فكرة أن هذا الصندوق أطلقه شخص مقرب من اليمين المتطرف لا تسهم بتاتا في تعزيز التهدئة”.
ترتكز حجة مسيحة في دعمه للشرطي على حساب الضحية على أن نائل كان متورطا أكثر من مرة في عدم الانصياع للقانون، كما أنه سبق أن تورط في تهريب المخدرات وسرقة اللوحات حسب مزاعم مسيحة، ومن ثم يقول السياسي اليميني إنه من غير المقبول أن تقف الشرطة بأيادٍ مكتوفة ومرتعشة أمام هؤلاء “المارقين”. ويلقي مسيحة باللوم في حادث قتل نائل على أسرته التي لم تحسن تهذيبه وتربيته، فبالنسبة إلى صديق لوبان السابق، فإن نائل قد انتحر لأنه لم يُطِع الشرطة، وحين لا تطيع الشرطة فأنت تُدخل نفسك في دوامة قد تتحول إلى مأساة، ولا تلومن إلا نفسك. واعتبر مسيحة أن من يستحق الدعم الآن هو أسرة الشرطي التي قد تجد نفسها أمام مهلكة الديون بعدما تم تعليق راتبه، وجدير بالذكر هنا أن المدعي العام في نانتير، وهو المسؤول عن التحقيق في الحادث، قد صرح بأن “الشروط القانونية لاستخدام السلاح ضد الشاب لم تتحقق”.
ربما لا يكفي توجهه المعادي للإسلام والمسلمين في فرنسا لتفسير موقفه في قضية الشاب نائل، حيث يتعلق هذا الموقف أكثر بحقيقة أن الامتيازات التي حصل عليها منذ بداية حياته قد مكنته من أن يصبح جزءا من فرنسا البيضاء، يدرس في أرقى جامعاتها، ويرتدي أحدث ملابسها، ويتعطر من عطورها، ويصبح محاميا عنها، ومن ثم فنائل يمثل له ضواحي فرنسا التعيسة المليئة بالفقراء والتي ينبغي قمعها بالقوة الباطشة، وربما يكون تمجيد الشرطة ومحاولة بسط أيديها هو إحدى السمات الأساسية التي يشترك فيها جل اليمينيين في أوروبا، الذين يقدسون الدم الأبيض، ويعتبرون غيره من الدماء دون قيمة، أيا كانت الطريقة التي أُريقت بها.