الفساد في اللغة هو الخروج عن الاعتدال ، سواء أكان قليلًا أم كثيرًا وهو ضد الاستقامة أما في الاصطلاح فتعدّدت مفاهيمه بتعدّد جوانبه المتعلقة به واتجاهاته المتباينة ومن هذه المفاهيم
أنَّ الفساد هو : خروج عن القانون والنظام أو استغلال غيابهما لتحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للفرد أو لجماعةٍ معينةٍ ، ومنهم مَنْ عرّفه بأنّه : –
( الخروج عن القواعد الأخلاقية الصحيحة وغياب أو تغييب الضوابط التي يجب أنْ تحكم السلوك ، ومخالفة الشروط الموضوعية للعمل وبالتالي ممارسة كلّ ما يتعارض مع هذا وتلك ) فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعًا إلى تحقيق مكاسب مادية أو معنوية . أما منظمة الشفافية العالمية ، فهي تعرّف الفساد بأنّه: إساءة استغلالٍ للسلطة ، أو الصلاحيات الممنوحة للشخص؛ لتحقيق مصالح شخصية على حساب المصلحة العامة.
أما ظاهرة الفساد فهي ليست بالظاهرة الحديثة ، بل ترجع جذورها إلى العهود القديمة جدًا مع بداية هبوط الإنسان على الأرض بل إنَّ الفساد قد ذكر قبل خلق الإنسان، قال تعالى :
(( وإذ قالَ ربكَ للملائكةِ إنِّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يفسدُ فيها ويسفكُ الدماء ونحن نسبح ُبحمدكَ ونقدسُ لكَ قال إنّي أعلمُ ما لا تعلمونَ )) سورة البقرة ، 30 .
وأنَّ أول جريمة قتلٍ في تأريخ البشرية هي حادثة قتل قابيل لأخيه هابيل، قال تعالى: (( فطوّعتْ لهُ نفسهُ قتلَ أخيهِ فقتلهُ فأصبح من الخاسرينَ)) سورة المائدة ، 30 .
وقوله تعالى : (( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنَّما أحيا الناس جميعًا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنَّ كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون)) سورة المائدة ، 32. إذ إنَّ الآية الكريمة تشير إلى خطورة الفساد الذي يعادل قتل النفس الإنسانية من حيث الآثار، وهكذا ارتبط الفساد بالإنسان منذ العصور القديمة.
والفساد لا يتوقف على شكلٍ أو نوعٍ معينٍ وإنَّما يشمل قائمةً طويلةً من الممارسات والسلوكيات كلٌ في مجال عمله أو مهنته أو تخصّصه، حتى أصبح السلوك الفاسد المرفوض والمنبوذ دينيًا واجتماعيًا شيئًا مقبولاً وغير مرفوضٍ بمرور الزمن. والفساد في الوسط المؤسساتي الإعلامي واحدٌ من المهن التي أصابها ما أصاب غيرها من المهن من انحرافاتٍ وتجاوزاتٍ وانتهاكاتٍ واعتداءاتٍ.
وتعدّ المؤسسة الإعلامية التي سمَّاها المفكر الأيرلندي( أدموند بروك) السلطة الرابعة في الدولة، على اعتبار التقسيم البرلماني الذي جعل سلطات الدولة ثلاثًا:
السلطة التشريعية،
السلطة التنفيذية،
السلطة القضائية،
ثم السلطة الصحافية،
و هي خارجةٌ عن التقسيم البرلماني قانونًا، وإنْ تكن منتسبةً إليه عرفًا. إحدى المقومات الحضارية من حيث الدور الذي تضطلع به في المجتمع؛ لدورها الكبيرفي حياة الإنسانبوصفها مصدرًا أساسيًا لتثقيفه وتوجيهه وترفيهه وتعليمه،فهي تسهم بدورٍ بارزٍ في تشكيل قيم المجتمعاتوبناء منظومة معرفية ومعلوماتيةفضلاً عن دورها الكبير في تبادل ونقل الأخبار والمعلومات.وتؤدي دورًا فاعلًا في عملية التطبيع والتنشئة والنمو الاجتماعي للأفراد وصناعة الوعي ودعم الوحدة الوطنية وتعريف المواطن بحقوقه وواجباته تجاه مجتمعه ووطنه، وبناء الأفكار والمعارف وتعزيز القدرات الإبداعية لديهم.
إلا أنَّ الإعلام لا يقف موقف المحايد أو البريء تجاه الكثير من القضايا السياسية أوالدينية أوالاقتصادية أو الثقافية أوالاجتماعية وبعض الأفعال الشاذة التي تتعارض مع القيّم الإنسانية والمفاهيم الاجتماعية؛ بل نجده غالبًا ما يسعى إلى لوي الحقيقة وتزييفها وتلميع الكثير من الممنوعات والمحرّمات والمرفوضات دينيًا واجتماعيًا وعرفيًا، والسعي إلى نشرها وصولاً إلى استساغتها وتقبّلها وعدم رفضها أو استهجانها. ويسهم -بحسب أحد الباحثين- في (تمييع الفهم عند الكثير من الناس وتشويش إدراكهم وتغييب الجماهير من القضايا الجوهرية التي تخصّهم، وترويضهم لاستقبال الفكر اللامعقول المناهض للأخلاق والشرائع السماوية المحارب للدين والمترفع على الكرامة والهوية).
وأصبح وسيلةً وصناعةً لتضليل الوعي وتزييف الواقع وفبركة الأحداث والقضايا على وفق ما تمليه عليه قوى المال والأعمال والسياسة التي تتحكم فيه .
وأنَّ للفساد الإعلامي الرقميعدّةمظاهر منها: صناعة رموزٍ من التافهين والفارغين والمنحرفين أخلاقيًا وممّن منحوا أنفسهم مسمّياتٍ وعناوين لا ينتمون إليها لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ مثل :
( إعلامي أو إعلامية،أو شاعر، أو روائي، أو كاتب) وغير ذلك من المسميات إذ يسوقونهم على أنّهم مثالٌأعلى يُقتدى به، ونجومٌ مقابل السعي لإسقاط الرموز الحقيقية من علماء وأطباء وأدباء ومصلحين ومفكرين.
وليس من المنطق السكوت واتخاذ موقف الحياد ممّا يجري من استخفاف بالذوق والآداب العامة والاستهانة بالحدود الأخلاقية والمبادئ والموروثات الثقافية والثوابت الإسلامية والقيم الإنسانية الأصيلة. إذ يتطلب الأمرضبط هذا الفضاء السيبراني الواسع ، ووضع حدّ لهذه الظاهرة الشاذة والغريبة عن مجتمعاتنا واتخاذ خطوات توعوية وإصلاحية وتنويرية وإجرائية وقانونية ولاسيما ونحن نعيش عصر العولمة الثقافية إذ لا خطوط ولا حدود فاصلة ما بين بلدٍ وآخر. وما يحصل هو ظاهرة عالمية لا تقتصر على بلدٍ من دون آخر إذ أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لكلّ مَنْ هبَّ ودبَّ من جهلةٍ وحمقى أنْ يقولوا ما يريدون، لدرجةٍ قادت الفيلسوف الإيطالي (أمبرتو إيكو) أنْ يقول: إنَّ أدوات وسائل التواصل الاجتماعي تمنح حقَّ الكلام لجيوشٍ من الحمقى، ممَّن كانوا يتكلمون في الحانات فقط بعد تناول كأسٍ من النبيذ من دون أنْ يتسبَّبوا بأيَّ ضررٍ للمجتمع، وكان يتمّ إسكاتهم فورًا. أمَّا الآن فلهم الحقّبالكلام ، مثلهم مثل مَنْ يحمل جائزة نوبل. إنَّه غزو البلهاء.
والمصيبة الأكبر لا تكمن في هؤلاء الإمّعات والعاهات والنكرات من التافهين والمنحرفين والفارغين والشاذينمن مشاهير السوشيال ميديا والفاشينيستاتممّن تصدروا المشهد؛بل في المؤسسات الإعلامية والقنوات الفضائية التي دعتهم إلى مدارج الشهرة ومصاعد النجومية واحتضنتهم وروّجت لهم وصدّرتهم ووفّرت لهم فرصةً للظهور والانتشار على أنَّهم نماذج وقدوة للشباب وفيمن يتابعهم ويتفاعل معهم ويعلّق على تفاهاتهمويدعمهم بمشاهدته من الجمهور المتلقي الذي يستقبل من الإعلام ذلك المحتوى الفاسد التافه بكلّ رحابة صدرٍ، وغالبًا ما تجدهم ينتمون إلى طبقاتٍ وشرائح اجتماعيةٍ متعلمةٍما بين أستاذٍ أكاديمي أو طبيبٍ أو رجل أعمالٍ أو مربّي أجيالٍ (مدرس) ناسين أو متناسين أنّهم يسهمون بشكل أو بآخر في نشر هذا التلوث الفكري وتأصيل التفاهة في المجتمع بحجة التسلية والترفيه والترويح عن النفس. وفي هذا السياق قال أستاذ علم الاجتماع الدكتور (علي الشعباني): ( كلّما زاد الفرد في إنتاج التفاهات زاد حبّ الناس له) دون وعي بخطورة ما يعصف بالمنظومة الأخلاقية المجتمعية التي تتعرض لأشرس هجمةٍ مدبّرةٍممنهجةٍلزعزعة ثوابتالمجتمعات وقيمها وأخلاقها والدفع بها للانقياد الأعمى نحو العالم المسخ.
د. سهام السامرائي