في مسرحية ( يوليوس قيصر ) قال شكسبير على لسان أحد المتآمرين على القيصر: (( لماذا يضحى قيصر مستبدًا ؟)) إنه ما كان ليصبح ذئبًا إلا لأنه رأى الرومان أضحوا نعاجًا ، ولا هو أسدًا إلا لأن الرومان غزلان جبانة)) .
اللبنة الأولى في صناعة المسؤول الفاسد أيًا كان موقعه صغيرًا أم كبيرًا وفي أي مؤسسة ، يتمثل في الخنوع والخضوع والرضوخ المذل والتهاون عن الحقوق والصمت على الظلم؛ بل والعمل على الترويج والتطبيل والتهليل لذلك المسؤول الفاسد، ربما إتقائًا لشره أو طمعًا بمكاسب يجنيها من ذلك التطبيل ، أو لأنه من حزبه أو قبيلته ، والطامة الكبرى ، أن هناك ثقافة عامة في المجتمع تؤمن بمحاسبة الفاسد البعيد وإعفاء الفاسد القريب .
والحقيقة أنّ تخلي الشعوب عن دورها في محاسبة الفاسدين والصمت عنهم يسهم في تدمير مؤسساتها وأوطانها . فنحن بذلك نشارك الفاسدين فسادهم ، إن الشعوب تتحمل مسؤوليات جسيمة بمشاركتها في الفساد .
وذكر ابن خلدون في مقدمته المشهورة ، حادثة تتعلق بفرار آخر ملك لغرناطة بعد سقوطها ، وهو الملقب بأبي عبد الله الصغير ، والذي نزل في ضيافة ملك نصراني ، فزاره الملك في خيمته ، فوجده يتوسد الحرير ، وبجواره كؤوس الخمر ، ولما سأله عن ذلك وكيف أنّها محرمة في الدين الإسلامي الذي يدين به الملك السابق ، تحرّج من الإجابة وقال إنه من فعل العبيد الأعاجم الذين يخدمونه وأنّهم قدموا بها من بلادهم ، لكنه فوجئ بالملك النصراني يقول له : لا والله لكنكم حرمتم الحلال وأحللتم الحرام ، وإنها فتنة وغضب من الله ، وإني أخشى على بلادي أنْ تُعاقب بفسادكم ، وإن إكرام الضيف ثلاثة أيام ، فخذوا ضيافتكم وارحلوا من بلادي .
نحن فاسدون مثلهم .
الفساد متجذِّرٌ لدى أغلب الناس حتى أصبح ثقافة مجتمع فالأكثرية جاهزة ومهيأة للفساد حتى أصبح مستساغًا لدى الكثيرين وجزءًا من سلوكهم اليومي. المثقف والأديب والإعلامي والأكاديمي الذي يجذِّرُ ويرسخ بمنشوراته ومؤلفاته ثقافة التبعية والتفرقة الطائفية المقيتة وبثّ سموم الكراهية والعنصرية بين أبناء الوطن الواحد .
والموظف الذي يفرض على المواطن الرّشوة لإكمال معاملته والمعلم الذي يقصِّر على طلابه في المدارس الحكومية كي يضطر الطالب إلى أخذ الدروس الخصوصية في المعاهد التي يُدرِّس فيها لقاء أجور مادية باهظة الثمن. وفي الأستاذ الجامعي الذي يشرف على طلاب ماجستير ودكتوراه ويأخذ لقاء إشرافه عليهم مبالغ مادية شهرية تخصصها له الدولة وهو يعلم أنَّ الطالب لم يكتب حرفًا واحدًا من رسالته أو أطروحته وإنمَّا اشتراها من مكاتب مختصة بكتابة الرسائل والأطاريح الجامعية مقابل مبالغ مادية ؛ وفي طلاب الدراسات العليا الذين يشترون تلك الرسائل والأطاريح ، وفي لجان الترقيات العلمية التي تستغل صلاحياتها الممنوحة لها والمؤتمنة عليها من الدولة في تمرير بحوث مسروقة أو ضعيفة لا تصلح للترقية مطلقًا لباحثين فاشلين مقربين منهم أو مدعومين من جهات عليا ، وفي المقابل تعمل على إيقاف معاملة الباحث النزيه لأسباب لا يعملها إلا الله وفي الناخب الذي ينتصر لمرشح عشيرته وهو يعلم علم اليقين بفساد ذلك المرشح تماشيًا مع عصبيته القبلية وإنْ خالفت الحق ، وفي ذلك قال الشاعر الجاهلي ( دريد بن الصَّمَّة ) :
أمَرْتُهُمُ أَمْري بِمُمْعَرَجِ اللِّوى
فلمْ يَسْتبَيُوا الرُّشْدَ إلا ضحَى الغَدِ
فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى
غِوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ
ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ
غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزَّيَةُ أَرْشُدِ
وقال رسول الله ( صل الله عليه وسلم ) (( لاَ تكُونُوا إمَّعَةً ، تقولونَ : إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وإنْ ظَلمُوا ظَلَمنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أنْفُسَكُم، إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أن تُحْسِنُوا وإن أَسَاءُوا فَلاَ تَظلِمُوا )) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكُمَيْلِ بن زياد النخعي : (( يا كُمَيلُ إن هذه القلوبَ أوعيةٌ فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثةٌ : فعالمٌ ربانيُّ ، ومُتَعلِّمٌ على سَبيلِ نَجاةٍ ، وهمجٌ رعاعٌ أتباعُ كُلِّ ناعِقٍ ، مع كلِّ ريحٍ يميلون، لم يستضيئوا بنورِ العِلمِ ، ولم يَلجَؤوا إلى رُكنٍ وَثيقٍ … أُفٍّ لحاِملِ حَقٍّ لا بصيرةَ له يَنقَدِحُ الشَّكُّ في قَلبهِ بأوَّلِ عارِضٍ من شُبهةٍ لا يَدري أينَ الحَقُّ ، إن قال أخطَأَ وإن أخطَأَ لم يَدرِ ، مَشغوفٌ بِما لا يَدري حَقيقَتهُ فَهُوَ فِتنَةٌ لِمَنْ افتُتِنَ بهِ وإنَّ الخَيرِ كُلَّهِ مَنْ عَرَّفَهُ اللهُ دينَهُ وكَفى بِالمَرءِ جَهلًا أن لا يَعرِفَ دينَهُ )).
وحسبنا من القرآن الكريم قول الله تعالى: (( فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِنْ قَبلِكُمْ أُوْلوا بَقَّيةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأرضِ إلاَّ قليلًا مِّمَّن أَنجَيْنَا مِنهُمْ وَاتَّبَعَ الذين ظَلمُونا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلمٍ و”أَهلُهَا مُصْلِحُونَ )) (صدق الله العظيم) .