بعد أسبوعين من إنهاء الوفد القانوني لجنوب أفريقيا من إلقاء مرافعتهم في قاعة محكمة العدل الدولي، وانتظارنا صدورَ القرار المؤقت للمحكمة، فلقد كنا نتأمل أن يتضمن القرار المؤقت فقرة واضحة صريحة تطالب بإيقاف القتال في غزة، ولكن مع ذلك، فإن صدور مثل هذا القرار الجريء المتخذ بالأغلبية وما حواه من بنود وفقرات يُعَد ولا شك سابقة تاريخية في مساعي المجتمع الدولي في إنصاف غزة ونصرا دبلوماسيا وقانونيا كبيرا لشعب فلسطين، كما ويؤكد على صحة الأدلة التي تقدمت بها جنوب أفريقيا بتورط تل أبيب في ارتكاب ممارسات تتعارض واتفاقية الإبادة الجماعية، واستجابتها للطلبات الفنية التي قدمتها جنوب إفريقيا لإدانة الجانب الآخر.
إن قرار محكمة العدل الدولية يعد مكسبا حقيقيا وتاريخيا للأسباب التالية:
أولا … تأتي أهمية هذا القرار إلى أن محكمة العدل الدولي قد رفضت بقرارها هذا الطلب الإسرائيلي الداعي لرفض الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا ضدها.
ثانيا … كونها المرة الأولى التي تقف فيه إسرائيل عاجزة عارية في قفص الاتهام الدولي إزاء أسوأ جريمة بالنسبة للقانون الجنائي متمثلة بـ (جريمة الإبادة الجماعية)، وهذا بحد ذاته يُعد نصرا عظيما لشعب فلسطين وقضيته العادلة، لاسيما أن صدور القرار المؤقت قد جاء بإجماع القضاة وبعيدا عن أهواء الدول التي ينتمي اليها قضاة محكمة العدل الدولي.
ثالثا … تأتي أهمية قرار محكمة العدل الدولي من منطلق أن إسرائيل فقدت لأول مرة ما كانت قد امتلكته طوال 75 عاما، وهو الحصانة أمام القانون الدولي والتي منحتها إياها الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية أخرى ساندت ووقفت الى جانب ممارسات إسرائيل الاجرامية والعبثية!!.
رابعاً … أن المحكمة قد عرّت الجرائم الإسرائيلية، فضلا على أن القرار الذي أصدرته يقر صراحة بأن إسرائيل ارتكبتها بحق الفلسطينيين، حيث طالبتها بالامتناع عن ارتكاب ما يؤدي إلى الإبادة الجماعية، وأن تمنع التحريض عليها، وأن توصل المساعدات إلى سكان قطاع غزة، وهذا في حد ذاته إقرار من المحكمة بإدانة إسرائيل واعترافها المسبق بجرائمها وممارساتها!!
خامساً… يرى خبراء في القانون الدولي أن هذا القرار قد وضع إسرائيل تحت مجهر الرقابة والرصد، وأكدوا أهمية وجود تحرك سياسي ودبلوماسي دولي للضغط من أجل وقف الحرب في غزة.
سادساً… وَضَع إسرائيل في مأزق دولي، مما سيزيد من الضغوط الدولية التي تمارسها عليها من قبل القوى الحليفة لها، كالولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول الغربية المساندة لها في عدوانها على غزة، مما سيدفعها بالتالي لإعادة نظرها في سياساتها تلك احتراما لقرار المحكمة من جانب، ونزولا عند ضغط الرأي العام في بلدانها الذي امتلأت شوارع مدنها بالجماهير الغاضبة والمستنكرة لما اقترفته إسرائيل من قتل وتدمير بفعل أسلحة هذه الدول من جانب آخر، وهذا لعمري ما سيغير من المشهد كثيرا.
لقد فشل الوفد القانوني الذي مثل إسرائيل في محكمة العدل الدولي في تسويق السردية الإسرائيلية المتمثلة بـ “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” في حربها على غزة، حيث أكدت محكمة العدل الدولية بقرارها إن إسرائيل بما فعلته وقامت به من عدوان إنما تكون قد تجاوزت فكرة حق الدفاع عن النفس!!، كما أن القرار الصادر قد أزعج المسؤولين الإسرائيليين كثيرا، حيث وصف (النتن ياهو) القرار بأنه وصمة عار في جبين المحكمة لن يمحى لأجيال عدة، كما خرج (بن غفير) بتصريحات وقحة تجاه قرار المحكمة واصفا إياه بأنه معاد للسامية، وأن المحكمة لا تسعى للعدالة وأنها تسعي لاضطهاد الشعب اليهودي!!
لقد كان لصدور هذا القرار التاريخي أثر دولي كبير، فسرعان ما توالت ردود الأفعال عليه، وتمثل في:
– البيان الصادر عن الاتحاد الأوروبي الذي أشار إلى إنه يتوقع تنفيذا كاملا وفوريا وفعالا لقرارات محكمة العدل الدولية بشأن اتخاذ إجراءات فورية في غزة، وجاء في بيان مشترك لمسؤول السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل والمفوضية الأوروبية أن قرارات “محكمة العدل الدولية ملزمة للأطراف وعليها الالتزام بها، ويتوقع الاتحاد الأوروبي تنفيذها الكامل والفوري والفعال”.
– توجيه الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، البعثة الدائمة لبلاده بالأمم المتحدة، بطلب عقد اجتماع لمجلس الأمن الدولي في أقرب الآجال، قصد “إعطاء صيغة تنفيذية” لقرارات المحكمة المفروضة على إسرائيل.
– تأكيد ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أن الأخير سيحيل “فورا” الإخطار بالتدابير المؤقتة لمحكمة العدل الدولية إلى مجلس الأمن، مشيرا إلى أن قرارات المحكمة ملزمة وهو على ثقة بأن جميع الأطراف ستمتثل لها.
وفي ظل قرار محكمة العدل الدولية الصادر هذا اليوم، المستند على الأدلة التي وردت بمرافعة فريق جنوب أفريقيا القانوني، وعلى ما صدر من تقارير لمنظمة هيومان رايتس ومنظمة الصحة العالمية، ووكالة الأمم المتحدة الإنسانية (الأنروا) والتي أشارت فيها الى حجم معاناة أبناء غزة في ظل العدوان الإسرائيلي، علاوة على ردود الأفعال الدولية السريعة آنفة الذكر، فقد بات لزاما الآن استثمار هذا الإنجاز التاريخي عربيا وفلسطينيا للدفع باتجاه تطوير أدائهما، واتخاذ إجراءات تصعيدية تحافظ من خلالها على هذا الإنجاز التاريخي الهام الرامي لعزل إسرائيل دوليا وإدانتها، وبالتالي لتصب في صالح القضية الفلسطينية وتحقيقا لتطلعات شعب فلسطين خاصة، وعموم آمال الشعب العربي وكما يلي:
– الصعيد العربي والإسلامي:
نعلم يقينا بإن إسرائيل لن تلتزم كعادتها بقرارات محكمة العدل الدولية، فلقد اعتادت أن تكون خارج المسائلة في كل ممارسة وفعل، لكنها وضعت هذه المرة تحت المجهر والرقابة والرصد، وما على جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي إلا توحيد الجهود وشحذ الهمة سياسيا ودبلوماسيا من أجل استثمار هذا التطور غير المسبوق والضغط على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية المساندة لإسرائيل لعدم مساندتها بالسلاح والعتاد، وحملها على وقف الحرب في غزة، كما وأرى لزاما على الدول العربية (المطبعة) مع الكيان الصهيوني احترام دماء شهداء غزة، من خلال إعادة النظر بالتطبيع جملة وتفصيلا، وإسراع مصر بالاضطلاع بواجبها الشرعي والأخلاقي من خلال فك الحصار عن غزة، وفتح معبر رفح لإدخال المساعدات الإنسانية التي تأخرت طويلا، وذلك امتثالا منها لقرار محكمة العدل الدولي الذي دعا لتأمين الحاجات الإنسانية لأبناء غزة، قال تعالى في محكم آياته من سورة الانفال، الآية 72: “وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ”، وقال تعالى في محكم آياته من سورة الحديد، الآية 25: “وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ”.
– الصعيد الفلسطيني: لقد عانت القضية الوطنية الفلسطينية على مدى الستة عشر عاماً الماضية من انقسام أنهكها، ولم يؤد إلى تقدم مسعى تحقيق هدف المشروع الوطني الفلسطيني قيد أنملة، لذا فقد بات لزاما على منظمة التحرير الفلسطينية وبمعية السلطة الوطنية الفلسطينية التحرك السريع لمواجهة الحاجة الملحّة لترتيب أوضاع البيت الداخلي الفلسطيني، بصورة حقيقية وواقعية، والاعتراف الصريح بالأخطاء التي ارتُكبت، وعدم الاستمرار بإلقائها من طرف على طرف، ومتابعة التراشق بالاتهامات، فهذا غير ناجع أو مفيد.
كما بات أمرا ملحا تشكيل قيادة فلسطينية جديدة وموحدة الصف لمنع عزل الضفة عن قطاع غزة، مع برنامج فلسطيني وطني مقاوم وكفاحي النهج، والتخلي عن سياسة ونهج التنسيق الأمني الذي كبّل أبناء الضفة طويلا ومنعهم من أداء دورهم الجهادي، وساعد إسرائيل بتنفيذ مخططها الرامي تدريجيا لقضم مدن وقرى الضفة الغربية واتساع رقعة الاستيطان.
إن استمرار الوضع السياسي الفلسطيني على ما هو عليه من التمزق والترهل والتخبط، فإنه يساهم بتحييد البوصلة الفلسطينية ويبعدها عن قدرتها على التوجيه الصحيح ، فلقد آن الاوان لهذا الانقسام أن ينتهي من أجل توجيه الجهد الفلسطيني الجمعي نحو تحقيق الهدف الوطني العام ، وأن يكون البرنامج الوطني العام محل إجماع الجميع ليكون موحدا للكل الفلسطيني في برنامج يجمع عليه الشعب الفلسطيني بكل أطيافه و مكوناته، وأنه لا يجوز في ظل هذه المرحلة والظروف القاسية التي يواجهها شعبنا العربي في فلسطين الوقوع مجددا في الخطأ وتكراره ، إن إنهاء الانقسام ضرورة تحتمها الأحداث الجارية.
ختاما … تحية إجلال وإكبار لشعبنا العربي في فلسطين عموما، وغزة خصوصا على وقفتهم البطولية وصمودهم الأسطوري والذي لولاه ما تمت تعرية إسرائيل أمام محكمة العدل الدولي.
رحم الله شهداء غزة الذين ثبتوا في المنازلة وامتثلوا لقول الله تعالى من سورة التوبة، الآية 111:
“إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ”.
سماك العبوشي
26/1/2024
رغم كون قرار المحكمه الدوليه لم يكن بالحزم الكافي لأجبار الكيان اللقيط على إيقاف عدوانهم الغاشم وجرائمهم بحق شعب اعزل محاصر بشكل فوري لكنه يعتبر نقطه مضيئه ومكسب وسابقه كشفت بها هذا الكيان اللقيط ومن وراءه واماطت اللثام عن حقيقته الدمويه التوسعيه المستهتره بالنظم والاعراف والقوانين الدوليه وجعلته مكشوفا عاريا أمام العالم والشعوب واظهرت مقدار الوهن والضعف والتخاذل المخزي للحكومات العربيه الخاضعه المرتجفه ..
طوبى لجنوب افريقيا موقفها المشرف والتي عجزت عنه حكومات العرب والمسلمين المتخاذلين ممن يكونون أسودا على شعوبهم ونعاجا وخرفانا أمام الغرب وصنيعتهم اللقيطه …