سادتي رئيس وأعضاء محكمة العدل الدولي:
تحية صادقة … وبعد.
إشارة الى الدعوى المقامة في محكمتكم الموقرة والتي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل تتهمها فيها بارتكاب “إبادة جماعية” في قطاع غزة، وصدور قراركم الأولي بتاريخ 26 يناير/ كانون ثاني / 2023، والذي (أمرتم!!) فيه إسرائيل بـ (السماح!!) بإدخال المساعدات الانسانية والمساعدات الملحة للفلسطينيين في قطاع غزة، وحماية السكان المدنيين، وعدم استهداف المنشآت المدنية والصحية، واتخاذ جميع الإجراءات الممكنة لمنع التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة والمعاقبة عليه، وأن عليها أن تمنع كل أعمال الإبادة المحتملة في قطاع غزة، وبموجب قراركم هذا فإنه يتعين على إسرائيل أن ترفع تقريرا إلى المحكمة في غضون شهر بشأن كل التدابير المؤقتة.
وبعد هذه المقدمة، أرى لزاما طرح التساؤلين التاليين:
هل التزمت إسرائيل حقا بقرار محكمتكم الموقرة!!؟
وما الذي سيتضمنه تقرير إسرائيل المنتظر تقديمه اليكم بشأن التدابير المؤقتة المفروضة عليها من قبلكم!!؟
سادتي رئيس وأعضاء محكمة العدل الدولي
أحيطكم علما، وبمزيد من الأسى والأسف، بأن قرار محكمتكم الموقرة، ورغم مرور أكثر من 24 يوما على صدوره، إلا أنه لم يجد أذنا صاغية لدى دولة الاحتلال، حيث لم يُثنِ قراركم هذا إسرائيل عن المضي في ارتكاب الانتهاكات اليومية في غزة، كما ولم تتوقف مجازر الإبادة الجماعية، وأن المذبحة الإسرائيلية في قطاع غزة مستمرة دونما توقف، ونحن على أعتاب قيامها بتنفيذ تهديداتها الوقحة باجتياح مدينة رفح واقتراف مجزرة جديدة بحق آلاف من أبناء غزة، ولقد تبقى أسبوع واحد فقط من فترة الشهر التي منحت لإسرائيل لرفع تقريرها اليكم بشأن التدابير المؤقتة التي تطرقتم اليها !!
في مقالتي السابقة التي حملت العنوان “عذرا غزة … فهذه هي حقيقة أنظمتنا العربية!!” ذكرت فيها قناعتي الشخصية – والتي يشاركني فيها الكثيرون أيضا – من أن إسرائيل لا تخشى الجنائية الدولية، ولا تعترف بمحكمة العدل الدولي، ولا تأبه للرأي العام الدولي، كما ولا تقيم وزنا للنظام العربي الرسمي، وها أنذا أؤكد ثانية قناعتي تلك، من أن إسرائيل غير آبهة وغير مكترثة لتطبيق قرارات محكمتكم الموقرة تحديدا، ولعل شواهدي وبراهيني على ذلك كثيرة، سأذكر لكم أهمها وكما يلي:
1- ما كانت قد صرحت به وزيرة خارجية جنوب إفريقيا ناليدي باندور، الأربعاء 31 كانون الثاني/ يناير ( أي بعد أربعة أيام فقط من صدور قراركم الموقر)، قائلة وأقتبس: “أعتقد أن أحكام المحكمة تم تجاهلها، لقد قُتل مئات الأشخاص في الأيام الثلاثة أو الأربعة الماضية، ومن الواضح أن إسرائيل تعتقد أن لديها ترخيصًا لفعل ما يحلو لها”… انتهى الاقتباس.
كما وحذرت من مغبة ذلك التقاعس في تجاهل تنفيذ ومتابعة قرارات المحكمة حيث أضافت وأقتبس: “هناك خطر من أن العالم لم يفعل شيئًا لوقف سقوط ضحايا من المدنيين في غزة، وهذا حصل في السابق، حيث ساهم التقاعس الدولي في قتل أكثر من 800 ألف شخص، خلال الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994″… انتهى الاقتباس.
2- تقرير المرصد “الأورومتوسطي” لحقوق الانسان الذي وثق فيه انتهاكات إسرائيل، وأنها مستمرة بذات الوتيرة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة من خلال قتل المدنيين على نحو واسع، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، واستمرار حصارهم وتجويعهم وإبقائهم دون غذاء وماء ودواء، وأن الجيش الإسرائيلي يستمر في تنفيذ عمليات تدمير منهجي وواسع النطاق للمناطق والأحياء السكنية والبنية التحتية المدنية ومرافقها، مما جعل معظم القطاع بحكم الأمر الواقع مكانا غير قابل للحياة والسكن!!.
لقد وثّق المرصد “الأورومتوسطي” قتل الجيش الإسرائيلي لأكثر من 1864 فلسطينيا، من بينهم 690 طفلا منذ صدور قرار المحكمة، كما أن إسرائيل تواصل استهداف ما تبقى من المنظومة الصحية في قطاع غزة، وبدلا من تسهيل وصول المساعدات إلى قطاع غزة، فإنها صعّدت من إجراءاتها لتقييد وصول هذه المساعدات عبر عدة آليات، منها السماح لمجموعات من المستوطنين المتطرفين بموافقة الشرطة الإسرائيلية وبناء على أوامر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بتعطيل مرور شاحنات المساعدات من معبر “كرم أبو سالم”!!
كما وأكد الأورومتوسطي أن الجيش الإسرائيلي يواصل عملية التدمير الشامل لكل المباني السكنية وتجريف الأراضي الزراعية في حدود يتراوح بين 1 إلى 1.5 كم بمحاذاة السياج الأمني الفاصل شرقي قطاع غزة وشماله، في إطار سعيه لإقامة منطقة عازلة تقتطع قرابة 15% من مساحة القطاع الذي لا يتعدى 365 كيلومترا مربعا، ويعد ضمن أعلى المناطق كثافة سكانية في العالم.
وجدد المرصد الأورومتوسطي دعوته إلى المجتمع الدولي بالاضطلاع بالتزاماته القانونية والدولية تجاه نفسه وتجاه سكان قطاع غزة، وضمان تنفيذ قرار محكمة العدل الدولية، والعمل فورا على وقف جريمة الإبادة الجماعية.
3- مصادقة ما يسمى كنيست الاحتلال الصهيوني على مشروع قانون بالقراءة التمهيدية لحظر عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في القدس المحتلة، بهدف إنهاء عمل الوكالة التي تمثّل شاهداً دولياً على معاناة شعب فلسطين عموما وأبناء غزة تحديدا وتهجيرهم من أرضهم قسراً، وعلى حقهم في العودة إليها، هذه المصادقة تتناقض والقرارات الدولية ذات الصلة، وتعد تعدياً سافرا على حقوق شعب فلسطين!!
4- قيام الاحتلال الإسرائيلي بتدمير الأبراج السكنية، واقتحام مستمر للمستشفيات والمجمعات الطبية في القطاع واستهداف الكوادر والاطقم الطبية، منها على سبيل المثال لا الحصر ما فعلته في مجمع ناصر الطبي في خان يونس وتحويله إلى ثكنة عسكرية، واستهدافه لمقر الإسعاف وخيام النازحين وتجريفه المقابر الجماعية داخل مجمع ناصر الطبي، واجباره لمن تبقى من النازحين وعائلات الطاقم الطبي على النزوح القسري من مجمع ناصر!!
5- قيام دولة جنوب أفريقيا بتقديم رسالة أخرى مشكورة الى محكمتكم الموقرة مؤرخة في 12 شباط / فبراير 2024 تضمنت طلبا الى المحكمة لاتخاذ تدابير (مؤقتة إضافية) لحماية شعب غزة وذلك لعدم التزام إسرائيل بقراركم الاولي واستمرار انتهاكها، علما أن محكمتكم الموقرة قد أصدرت بتاريخ 16/2/2024 قرارا يجيب على رسالة دولة جنوب أفريقيا آنفة الذكر أكدتم فيه أن دولة إسرائيل لا تزال مُلزَمة بالامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية وضمان سلامة وأمن الفلسطينيين في قطاع غزة!!!!!!.
6- التحذير الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي بتاريخ 14/2/2024 من مغبة قيام إسرائيل باجتياح بري لمدينة رفح المكتظة بمئات الآلاف من النازحين الفلسطينيين وما سيترتب عن ذلك من تداعيات إقليمية لا تحصى علاوة على تفاقم الوضع الإنساني لأبناء غزة!!
7- إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرارا رفضه قيام دولة فلسطينية، وقال إن إسرائيل لن تتخلى عن سيطرتها الأمنية الكاملة على الضفة الغربية، ردا منه على تصريحات أمريكية وأوربية بضرورة تنفيذ حل الدولتين في أقرب وقت بعد انتهاء الحرب على غزة، مما يؤشر بشكل صريح عدم جدية إسرائيل للانصياع للدعوات الغربية لايجاد حل للقضية الفلسطينية وإنهاء محنة شعب فلسطين!!
سادتي أعضاء المحكمة الموقرة:
أعلم يقينا بأن:
– قراركم غير ملزم، وأنكم قد بذلتم ما استطعتم، وأن قراركم الصادر يُعَدُ بداية نهاية حقبة الإفلات من العقاب التي لطالما استغلها الاحتلال الإسرائيلي ليطلق العنان لنفسه لاضطهاد الشعب الفلسطيني وقمع كافة حقوقه المشروعة، وأدرك تماما بأن لقراراتكم سلطة أخلاقية وقانونية كبيرة، ويمكن أن تُصبح في نهاية المطاف جزءً من القانون الدولي العرفي الذي سيحمي في المستقبل الإنسانية في أرجاء المعمورة، فجزاكم الله خيرا.
– لا رجاء ولا أمل بدور أميركي ضاغط على إسرائيل لوقف مجازرها وانتهاكاتها اليومية في غزة، وخير دليل على ذلك قيامها باستخدام حق النقض 80 مرة لمنع إدانة حليفتها إسرائيل، و34 مرة ضد قوانين تساند حق الشعب الفلسطيني.!!
– المسؤولية الأكبر إنما تقع على أنظمتنا العربية والإسلامية من منطلق أنهم أبناء جلدتنا وإخوتنا في العقيدة، إلا أن معظمها الاغلب قد اكتفى بصدور قراركم هذا وراح ينتظر مدة الشهر دون أن يحرك ساكنا ليدرك حقيقة طالما تناساها وأنكرها والمتمثلة بمدى التزام إسرائيل بما صدر لها من محكمتكم الموقرة، رغم اطلاع هذه الأنظمة اليومي على حجم الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة، وما تقترفه من مجازر يوميا هناك!!
ختاما …
يطيب لي أن أستشهد ما ورد بكتابنا الكريم من وصف للظالمين وما مآلهم ومصيرهم:
“أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ”…(الانعام:6).