ما استفزني في حقيقة الأمر ودفعني لكتابة هذا المقال ما رأيته من مقطع فيديو للنتن ياهو كان قد سُجّل في تسعينات القرن المنصرم حين كان شابا يافعا وقد وجه له سؤال في لقاء جماهيري منقول عبر شاشات التلفزة، عن رأيه بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، فأوضح بشكل لا لبس فيه عن استحالة قبوله هذا الأمر، معللا ذلك بالقول بأن للفلسطينيين دولة قائمة تقع شرق نهر الأردن، وبإجابته تلك فقد كشف بصريح العبارة عن حقيقة أهداف إسرائيل وسعيها لتحقيقها، تلك الأهداف المتمثلة بابتلاع فلسطين من النهر الى البحر!!
ودارت الأيام، (كما تقول كوكب الشرق السيدة أم كلثوم)، ومرت الأيام، فإذا بطوفان الأقصى يكشف الحقائق عن أعين بعض الواهمين الحالمين بإمكانية تحقيق السلام والوئام مع الكيان الصهيوني الغاصب، بما أعلن عنه رئيس وزرائها النتن ياهو بقراره بشكل صريح عن معارضته وحكومته المتطرفة أي اعتراف دولي محتمل بدولة فلسطينية، رافضا بذلك دعوات أمريكا وغيرها بإقامة دولة فلسطينية على 22% فقط من أرض فلسطين التاريخية، وضاربا عرض الحائط قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم 181 والذي ُصدر بتاريخ 29 نوفمبر 1947 ، وقراريّ الأمم المتحدة 242 و 338، ولعل الأشد مرارة ووقعا وألما وإحباطا لقيادات السلطة الفلسطينية الموقرة إنكاره ونسفه لبنود اتفاقية أوسلو التي تم توقيعها قبل ثلاثين عاما بين رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات!!
وإنعاشا لذاكرة القراء الكرام عموما، والمتشبثين بوهم السلام والوئام من المطبعين والمنبطحين من أبناء جلدتنا خاصة، والمتمسكين بالتنسيق الأمني (المقدس!!) الذي جاء نتيجة مفاوضات عبثية بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال، فإنني سأدرج بعض النقاط الهامة حول اتفاقية أوسلو، وما ترتب عنها وما تمخض، كي يعرف هؤلاء حقيقة ما جرى، ويدركوا حجم الوهم الكبير الذي وقعوا فيه، وحجم السراب والخديعة والمصيدة التي وقع فيها الطرف الفلسطيني الذي وقـّع على الاتفاقية تلك!!
من هنا تبدأ حكاية الوهم الكبير، وعلى الله التكلان:
قبل ثلاثة عقود تقريبا، وفي يوم 13 سبتمبر/أيلول 1993، وقّع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في حديقة البيت الأبيض بواشنطن اتفاق تشكيل “سلطة حكم ذاتي فلسطيني انتقالي” يعرف بـ”اتفاق أوسلو” الذي مهد لمرحلة جديدة من تاريخ القضية الفلسطينية، ونصت اتفاقية إعلان المبادئ على إجراء مفاوضات للانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وغزة، على مرحلتين:
المرحلة الأولى / الإعدادية:
تبدأ يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول 1993 وتنتهي بعد 6 أشهر، وفيها تجرى مفاوضات تفصيلية على محورين:
المحور الأول:
الانسحاب الإسرائيلي من غزة وأريحا، وينتهي هذا الانسحاب في غضون شهرين، ويجري انتقال سلمي للسلطة من الحكم العسكري والإدارة المدنية الإسرائيلية إلى ممثلين فلسطينيين تتم تسميتهم لحين إجراء انتخابات المجلس الفلسطيني.
المحور الثاني:
تنص الوثيقة فيه على تشكيل سلطة حكم فلسطيني انتقالي تتمثل في مجلس فلسطيني منتخب يمارس سلطات وصلاحيات في مجالات محددة ومتفق عليها مدة 5 سنوات انتقالية.
المرحلة الثانية / الانتقالية
تبدأ بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة وأريحا، وتستمر 5 سنوات تجرى خلالها انتخابات عامة حرة مباشرة لاختيار أعضاء المجلس الفلسطيني الذي سيشرف على السلطة الفلسطينية الانتقالية، وعندما يتم ذلك تكون الشرطة الفلسطينية قد تسلّمت مسؤولياتها في المناطق التي تخرج منها القوات الإسرائيلية بخاصة تلك المأهولة بالسكان.
وأما بخصوص مفاوضات الوضع النهائي فقد نصت الوثيقة على البدء بتلك المرحلة بعد انقضاء ما لا يزيد على 3 سنوات، وتهدف إلى بحث القضايا العالقة مثل: القدس، والمستوطنات، واللاجئين، والترتيبات الأمنية، والحدود، إضافة إلى التعاون مع الجيران وما يجده الطرفان من قضايا أخرى ذات اهتمام مشترك، كل ذلك سيكون بحثه استنادا إلى قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338.!!
وإمعانا مني بتسليط الأضواء وتوضيح حجم الفاجعة التي تحققت بتوقيع اتفاقية أوسلو، نتيجة عدم يقظة وفطنة المفاوض الفلسطيني، فقد التزمت منظمة التحرير الفلسطينية على لسان رئيسها الراحل ياسر عرفات بحق دولة إسرائيل في العيش في سلام وأمن، والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات، وطبقا لذلك الالتزام فإن منظمة التحرير الفلسطينية تدين استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى، وستقوم بتعديل بنود الميثاق الوطني الفلسطيني للتماشي مع هذا التغيير، هذا كما وسوف تأخذ على عاتقها إلزام كل عناصر أفراد منظمة التحرير بها ومنع انتهاك هذه الحالة وضبط المنتهكين، كما وتعترف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل (على 78% من أراضي فلسطين – أي كل فلسطين ما عدا الضفة الغربية وغزة)، ولقد أجاد المفكر الفلسطيني الكبير (إدوارد سعيد) حين وصف حال منظمة التحرير الفلسطينية إزاء التزامها بتنفيذ تعهداتها آنفة الذكر حين قال وأقتبس نصا: “لقد حولت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة”!!!… انتهى الاقتباس.
والتساؤلات التي تتبادر الى الأذهان:
ما الذي تحقق من بنود وفقرات تلك الاتفاقية يا ترى!؟
وهل حقق المفاوض الفلسطيني من خلال توقيعه على الاتفاقية أحلام شعبه وطموحاته!؟
وأخيرا وليس آخرا، من الذي منح المفاوض الفلسطيني الموافقة والتفويض على إبرام تلك الاتفاقية المشؤومة!؟
والجواب بمنتهى البساطة والوضوح:
أن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لم تستشر ممثلي شعبها، ولم تستمزج رأي قادة فصائل المقاومة الفلسطينية حين جلست للتوقيع على اتفاقية أوسلو، ولا أدري حقيقة إن كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة المرحوم ياسر عرفات قد خُدعت بانسياقها خلف سراب وهم إقامة دولة فلسطينية على أشلاء ما تبقى من أرض فلسطين !!؟، إلا أن الحقيقة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فالدولة الفلسطينية التي طمحت منظمة التحرير أن يكون هذا الاتفاق بداية الطريق لإقامتها، لم تقم حتى يومنا هذا، هذا أولا، وأن ما كان تحت سيطرة السلطة من أراضٍ بعد الاتفاق كانت قد أعادت إسرائيل احتلاله بعد أقل من 8 سنوات ثانيا، أما ثالثة الأثافي، فإسرائيل مازالت تتحكم بمدن وقرى الضفة، وتستبيح وتنتهك حرمات بيوت أبنهائها بشكل يومي، هذا كما وتشن اعتداءً وانتهاكا صارخا وإبادة لأبناء فلسطين في غزة العزة والكرامة!!.
أما بخصوص الإجابة عن باقي التساؤلات الواردة أعلاه، فبنظرة بسيطة للفقرات أدناه فإنكم ستدركون حجم التخبط الذي وقعت به قيادة منظمة التحرير، والنفق الكبير المدلهم الذي أدخلت شعب فلسطين فيه:
1- لقد منح اتفاق أوسلو دولة الاحتلال شهادة لشرعية وجودها، في وقت لم تكن تملك سابقا أي أوراق أو وثائق تثبت حقها في أي شبر من أرض فلسطين، حتى أن قرار التقسيم عام 1947 ، الذي منح الفلسطينيين نحو 45% من الأرض، فإنه لم يكن مُسْتَنَدا قانونيا، لسبب بسيط يتمثل في أن الفلسطينيين والعرب قد رفضوه حينها، وليس هذا فحسب، بل إن الأمم المتحدة التي تبنت القرار ليست صاحبة الأرض كي تقرر منحها لمن تشاء!!
2- اتساع الاستيطان الإسرائيلي غير القانوني في قرى ومدن الضفة الغربية بعد قضم الأراضي هناك، واتباع إسرائيل سياسة التقسيم الإداري للضفة الغربية إلى المناطق “أ” و”ب” و”ج” بحسب اتفاقية أوسلو الثانية أو ما تسمى بـ(اتفاقية طابا) التي تم التوقيع عليها بتاريخ 24 سبتمبر 1995 في طابا بشبه جزيرة سيناء، علاوة على قيامها بإقامة جدار فصل، والتي أدّت كلها إلى التفكّك الجغرافي لأراضي الضفة الغربية، كما وأصبحت مفصولة أيضًا عن قطاع غزة والقدس الشرقية!!.
3- احتفاظ إسرائيل بالسيطرة المُطلقة على الأراضي المحتلّة وسكانها، بينما مُنحت السلطة الفلسطينية صلاحيات إدارية محدودة للغاية كحفظ الامن الداخلي!!.
4- استثمرت إسرائيل مبدأ التنسيق الأمني المبرم بينها وبين قيادة السلطة الفلسطينية، حيث وظفته لخفض التوتر في قرى ومدن الضفة وتجنب مواجهة شاملة مع الفلسطينيين، ولإحباط “العمليات المسلحة” وتقويض المقاومة الفلسطينية، وشن قوات الجيش الإسرائيلي حملات اقتحامات وتفتيشات واسعة بالضفة يوميا تحت أنظار ومسمع قوات الأمن الفلسطيني!!.
5- احتفاظ إسرائيل بالسيطرة التامة على موارد فلسطينية أساسية، ومن ضمنها المياه والكهرباء والطاقة، كما وحافظت إسرائيل على السيطرة الكاملة على الحدود الخارجية وعلى حركة التجارة الفلسطينية مع الأسواق العالمية!.
6- منح إسرائيل السيطرة الكاملة على الإيرادات الضريبية للسلطة الفلسطينية، من خلال نظام المقاصّة، فبموجب هذا النظام، تُحصِّل إسرائيل بالنيابة عن السلطة الفلسطينية الضرائب على الواردات إلى السوق الفلسطينية، والضرائب غير المباشرة على السلع الإسرائيلية المصدّرة إلى الأراضي المحتلّة، وضرائب الدخل والتحويلات الاجتماعية من الفلسطينيين العاملين في إسرائيل أو في المستوطنات الإسرائيلية. بعدئذٍ، تقوم إسرائيل بتحويل إيرادات هذه الضرائب إلى السلطة الفلسطينية بعد خصم 3% منها كرسم تحصيل!!.
هذا لعمري، غيض من فيض ما حققته إسرائيل من خلال توقيع اتفاقية أوسلو، فهل تمت الإجابة عن تلك التساؤلات الواردة أعلاه، والحقيقة الأكبر في السراب الكبير الذي حسبته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لُجّة ماء طهور وخطأها العظيم الذي لا يغتفر بتهافتها على التوقيع على اتفاقية أوسلو، تتمثل في أن ما ثبّت شرعية دولة الاحتلال وأسقط حق الفلسطينيين بـ (78%) من الأرض هو تحديدا اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بقراري 242 و338 في الجزائر عام 1988، وتحويلها إلى وثائق مكتوبة من خلال اتفاقية أوسلو عام 1993، وكان من نتيجة ذلك التوقيع أن جعل حقوق شعب فلسطين قابلة للتفاوض حتى يومنا هذا!!
عبارة كنت يوما قد قرأتها فاسترعت انتباهي وحازت اعجابي، والتي تلخص بمنتهى الذكاء وتصف ما جرى في أوسلو، وأقتبسها نصا: (إن من وقّع أوسلو تعامل كسمسار مَنح كل الأملاك وسجلها في “الطابو” لمشتر عرضي من دون موافقة صاحب الأرض الأصلي)!!
أليست هذه هي الحقيقة بربكم!!؟
ومع ذلك، وعلى الرغم من الجهود الإسرائيلية الحثيثة لتقسيم الفلسطينيين وتصفية القضية الفلسطينية، لاسيما في ظل حكومة اليمين المتطرف الحالية؛ وعلى الرغم من تشبث السلطة الفلسطينية بأوسلو وتمسكها بها، وما تعانيه السلطة الفلسطينية من ضعف متزايد وافتقار للشرعية الجماهيرية، فالتاريخ شاهدٌ على أن الفلسطينيين لن يستسلموا حتى ينالوا الحرية والكرامة والعدالة، وبات شعارهم : إنه لجهاد … نصر أو استشهاد!!
ختاما أقول:
أقول لما تبقى من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية: إذا نجحتم يوما في خداع أحد ما، فهذا لا يعني أنه غبي، لكنه فقط كان يثق بكم وبجهادكم يوما!!