برغم مرور ثمانية أشهر على بدء المجزرة المروعة وعمليات الإبادة الجماعية التي نفذتها قوات الاحتلال الصهيوني بحق أبناء غزة الصامدين المرابطين، والتي جرت وتجري بدعم وإسناد كامل من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن من خلال قيامه بتزويد دولة الاحتلال بما توفر في مخازنه من أسلحة ذكية و(غبية!!) ومعدات بأطنان تلو أطنان وبما تنتجه معامل تصنيع الأسلحة الأمريكي، والتي ذهب ضحيتها عشرات الأطفال، مع تدمير شبه كامل لمنشآت ومباني ومستشفيات وجامعات ومدارس وجوامع وكنائس غزة، وبرغم الدعوة التي أقامتها دولة جنوب أفريقيا في محكمة لاهاي الدولية لإدانة جرائم دولة الاحتلال تلك، وما أعقبها من نقاشات في أروقة مجلس الامن الدولي لإصدار قرار بوقف العدوان الصهيوني على غزة في شهر رمضان المبارك، أقول برغم كل ما جرى من جرائم مروعة وسفك للدماء في غزة وما رافقها من تداعيات دولية، فإذا بالسيد جو بايدن يستفيق فجأة وعلى حين غِرّة من غيبوبته وسباته بعد ثمانية أشهر تقريبا، فيعترف أخيرا بأن القنابل الامريكية التي استخدمت في غزة وقتلت مدنيين!!
والأنكى من هذا، وبرغم اعترافه الخطير والمخزي هذا والذي يدينه، ويضعه وإدارته على حد سواء في خانة الاتهام الدولي، إلا أنه تدارك الأمر لتخفيف الضغط عليه من قبل اللوبي الصهيوني، فأعلن عن تعليق (مؤقت!!) لشحنة الأسلحة الأمريكية المخصصة لإسرائيل، وبأن الولايات المتحدة الأمريكية ستواصل تقديم (أسلحة دفاعية!!) لإسرائيل، بما في ذلك نظام الدفاع الجوي “القبة الحديدية”!!
وصدق من قال: إن لم تستح فاصنع ما شئت!!
أضيف للمثل أعلاه فأقول: وقل وصرح بما شئت!!
هكذا إذن بمنتهى البساطة والسذاجة والاستخفاف أطلق بايدن اعترافه السخيف هذا!!
وأتساءل باستغراب شديد:
أيُعقل – بالله عليكم – أن تطول فترة استفاقة ضمير إنسان عاقل واع، أو أن يستعيد صحوته من غيبوبته ونومه لأكثر من ثمانية أشهر جسام كان قد عاشها وشاهد أحداثها عن كثب!؟
وأجيب عن ذلك التساؤل:
ربما يكون ذلك جائزا ومحتملا، لاسيما إذا كان ذلك الشخص أميا جاهلا لا تتوفر لديه وسائل الاستيقاظ أو مبررات الإفاقة، إلا أن احتمال أن تطول غيبوبة شخص أو نومه أو سباته وفقدانه للوعي ثم استرداده لها لا ينطبق أبدا على شخص بمواصفات ومؤهلات الرئيس الأمريكي (جو بايدن) وذلك لجملة أسباب، لعل أهمها أنه يتسيد قيادة دولة عظمى كالولايات المتحدة الامريكية، تلك الدولة التي تملك من إمكانيات إعلامية وأجهزة ومؤسسات تجسسية يستطيع من خلالها وبها أن يحلل كل مجريات الاحداث في العالم، ويحدد حقيقة ما يجري فيه، لاسيما إذا ما جرى ذلك كله في بقعة صغيرة محاصرة منذ سنوات، كقطاع غزة!!، وليس هذا فحسب، بل وأن بايدن ذاته كان طرفا رئيسيا وفاعلا مؤثرا في محنة ونكبة غزة، فخلال شهور العدوان على غزة، لم تخلُ تصريحات المسؤولين الأميركيين خلالها من بُعدها الفكري والديني العميق تجاه إسرائيل وما تردده من سردية معاداة السامية، بالتوازي مع الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي المهول، حيث قدمت إدارة جو بايدن مساعدات كبيرة شملت أسلحة وذخيرة، كما وقامت بتحريك أسطول بحري في مياه المنطقة، وامتد الدعم ليشمل الجانب الدبلوماسي في المحافل الدولية لتأمين استمرار الغطاء السياسي للحرب على قطاع غزة، كما وراقبت وتابعت باهتمام شديد القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولي ضد دولة الاحتلال متهمة إياها باقترافها إبادة جماعية بحق أبناء غزة، كما وتابعت نقاشات جرت في مجلس الامن الدولي مؤخرا!!
لقد كان السلوك السياسي التضامني الأقوى لإدارة جو بايدن يتمثل بالزيارات المكوكية المتواصلة التي أجراها المسؤولون الأميركيون لإسرائيل، وخاصة الرئيس الأميركي الذي طار إلى تل أبيب بعد 10 أيام من بداية العدوان الغاشم على غزة العزة، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد فحسب، بل وشملت تلك الزيارات ورافقتها مشاركة عدد منهم اجتماعات الحكومة الإسرائيلية ومجلس وزراء الحرب بينهم الرئيس الأميركي نفسه ووزيري دفاعه وخارجيته!!، كما وتبنى جو بايدن خلال مجريات العدوان على غزة، رواية جيش الاحتلال بتحميل المقاومة الفلسطينية المسؤولية الكاملة عن حادثة استهداف المستشفى المعمداني، كما وشكك بالبيانات التي تصدرها حكومة غزة خصوصا تلك التي بشأن أعداد الضحايا!!.
والحديث يطول ويطول، وهو لعمري حديث ذو شجون، ذاك الذي يدين جو بايدن وإدارته المنحازة تماما للكيان الصهيوني، لهذا كله، وبصراحة شديدة أجيب يقينا وواثقا عن تساؤلي أعلاه:
لا أعتقد أنها استفاقة ضمير لجو بايدن، كما وأنها ليست بصحوة متأخرة من غيبوبة وسبات تلك التي أصابته باعترافه ذاك، فلطالما تبجح عبر خطبه معلنا متباهيا فخورا بأنه صهيوني!!، أقول هي ليست صحوة ضمير، وإنما هي هزة كبرى وصدمة مروعة قد أصابت جو بايدن وأفزعته وأربكت أركان إدارته وحزبه جراء المعطيات التالية:
1- إخفاق وفشل جيش الاحتلال الإسرائيلي من تحقيق هدفيها الرئيسيين المعلنين من الحرب وهما القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بشكل كامل واستعادة الرهائن لديها برغم مرور أشهر على بدء العدوان!!
2- حجم واتساع التظاهرات الطلابية التي اجتاحت الجامعات الأمريكية مستنكرة العدوان الصهيوني على غزة والمنددة بمساندة إدارة جو بايدن لها، تلك الاحتجاجات الطلابية التي وضعت حملة إعادة انتخاب الرئيس الأميركي جو بايدن في موقف صعب وحرج، مما دفعه لاعترافه ذاك وقرار التعليق المؤقت لشحنة السلاح لتهدئة تلك الاحتجاجات والاعتصامات الطلابية!!
3- ما أظهرته استطلاعات للرأي مؤخرا عن تراجع حظوظ الرئيس الأميركي جو بايدن للفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم في مواجهة منافسه المحتمل الرئيس السابق دونالد ترامب، لاسيما وأن الاستطلاع قد جاء قبل أيام من أهم محطات موسم الانتخابات التمهيدية للحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث أظهر الاستطلاع الذي أجرته صحيفة نيويورك تايمز وجامعة سيينا أن 48% منهم سيختارون ترامب، مقابل 43% فقط لبايدن، في حال أُجريت الانتخابات اليوم!!.
والشيء بالشيء يذكر كما يقال بالأمثال العربية، ولإظهار انتهازية جو بايدن واستخفافه بعشرات الآف من الشهداء والجرحى من أبناء غزة وعدم اكتراثه بما أصابهم، قيامه بانتقاد إسرائيل لأول مرة بسبب القصف الجوي الذي أسفر عن مقتل سبعة من عمال الإغاثة، مؤكّداً أنّ دولة الاحتلال لم تفعل ما يكفي لحماية المتطوّعين الذين يمدون يد العون للفلسطينيين الذين يتضوّرون جوعاً!!، وبإنّه يشعر بالغضب والحزن لمقتل سبعة من أفراد منظمة “المطبخ المركزي العالمي” غير الحكومية ومقرّها الولايات المتحدة الأمريكية!!.
فأي استخفاف بالدم الفلسطيني الطاهر، ذاك الذي يدفع جو بايدن للصمت المطبق ودخوله في مرحلة سبات وغيبوبة، حين قتلت إسرائيل عشرات الاف الفلسطينيين في غزة بالقنابل والصواريخ الامريكية، كما وجرحت عشرات الاف آخرين، لكن ضميره استيقظ فقط ولثوان عديدة واسترد وعيه وانسانيته بعد أن أقدمت دولة الاحتلال على قتل سبعة افراد من منظمة المطبخ المركزي العالمي والتي مقرها الولايات المتحدة الامريكية، علما أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، قد وافقت على نقل آلاف القنابل والأسلحة إلى إسرائيل، في نفس يوم مقتل عمال إغاثة من المطبخ المركزي العالمي في ضربة إسرائيلية بقطاع غزة، بحسب تقارير أمريكية، حيث نقلت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية عن عدة مسؤولين أن الولايات المتحدة الأمريكية قد سمحت بنقل آلاف القنابل إلى إسرائيل في نفس اليوم الذي قتلت فيه الغارات الجوية الإسرائيلية سبعة عمال إغاثة يعملون في المطبخ المركزي العالمي في غزة، وأضافت أن وزارة الخارجية وافقت على نقل أكثر من ألف قنبلة من طراز MK82 وأكثر من ألف قنبلة ذات قطر صغير وصمامات لقنابل MK80 إلى إسرائيل، كما تم الإبلاغ عن تصريح النقل بواسطة سي إن إن!!.
فأي ضمير هذا الذي ظل صامتا طيلة أشهر من سفك دماء أبناء غزة، وترويعهم، وتدمير منشآتهم ومبانيهم!!
ختاما …
صدق سقراط حين قال يوما: ” لقد كنت رجلا نزيها لذلك لم أصبح سياسيا”.
بغداد في 9 أيار / مايو 2024