العراق وطن يسكنني ، ولي الفخر ، ولكل الشعوب العربية ان تشعر بفخر انتماءها لوطن عربي ممتد ركيزته الحضارية والعلمية والفكرية والثقافية الاولى هي العراق .
انه احدى جنات الله في أرضه ، وكما ذكر بعض علماء الدين المسيحي ، ان العراق أصل العالم كله ، مبرهنا على ذلك ، بأن الخالق العظيم عندما غرس جنة عدن غرسها في العراق ، وخرجت من جنة عدن أربعة أنهار وهي سيحون وجيحون اللذان غطاهما الطوفان ، ودجلة والفرات الباقيين حتى يومنا هذا .
واذا كان هذا التصور الديني صحيحا ، فانه يفسر نبوغ اهل العراق في اقامة أول الحضارات بالكون ، ويوضح هذا التصور الديني أيضا اسباب ان العراق كانت الاولى في كافة الاختراعات البشرية مثل الكتابة والعجلة والسفن والقانون والأدب و الشعر والتقويم و أول معنى للمدن والأوطان . فهي موطن برج بابل ، ومشهد للطوفان ، وموطن التنجيم الكلداني ، وموطن الف ليلة وليلة .
ولذلك فان حضارة بلاد الرافدين هي أصل الحضارات في العالم كما عبر المؤرخ الشهير توينبي التي أطلق على مصطلح الحضارة الأصلية أو الأصيلة (Original) ، وهي الحضارة التي لم تُشتق من حضارة سابقة لها بل نشأت وتطورت منذ عصور ما قبل التاريخ .
والعراق بحسب وصف ابن حوقل هو «أعظم أقاليم الأرض منزلةً ، وأجلّها صفةً، وأغزرها جبايةً ، وأكثرها دخلاً ، وأجملها أهلاً، وأكثرها أموالاً ، وأحسنها محاسنَ ، وأفخرها صنائع، وأهله أوفرهم عقولاً وأوسعهم علوماً، وأفسحهم فطنة في سالف الزمان الزمان والأمم الخالية» .
وفي وصف ياقوت الحموي ، فان سكان العراق هم أهل العقول الصحيحة والآراء الراجحة ، والبراعة في كل صناعة .
وفكرة استحداث المدينة ، كانت أحد أهم ابتكارات العراقيين القدماء، إذ لم تكن هذه الفكرة الشائعة اليوم موجودة قبلهم ، ووفر العراق الحماية لسكانه من أخطار الحيوانات المفترسة .
وكان أهل الفرات أول من سمى الأدوات الزراعية ، كما كان العراقيون اول من ابدع في الكتابة قبل سنة 3000 ق.م، وهي ما تعرف اليوم الكتابة المسمارية .
وأول حرب في سجلات التاريخ البشري قادها ملك مدينة كيش السومرية «إين مي باراكي سي» شعبه في حملة عسكرية ضد بلاد عيلام وانتصر عليهم وحصل على الغنائم الكثيرة التي قادها الى العراق .
واخترع العراقيون فن تخمير البيرة باعتبارها شراب الآلهة ، وجعلوا الآلهة نينكاسي مسؤولة عن التخمير لضمان نقاوتها واستهلك السكانُ البيرةَ بمختلف طبقاتهم الاجتماعية وقدّموها للآلهة وللأموات في طقوس إراقة الشراب .
والمؤرخون يطلقون على العراق وصف ( وطن أول أوائل ) خاصة سومر ،فالباحث صموئيل نوح كريمر في كتابه «التاريخ يبدأ من سومر» يرصد أول 39 أوائل بالتاريخ البشري حدثت في سومر منها :
ان سومر شهدت بناء أول مدرسة ، و أول حالة مسجلة للتملّق والتزلّف ، و أول قضية جنحة للأحداث القصر ـ أول حرب أعصاب ، أول مؤرخ ، وأول هيئة تشريعية ثنائية ( بمجلسين : شيوخ وعموم ) ، وأول حالة تخفيض ضريبي أول سابقة قانونية ، و أول دستور للأدوية ( أقرباذين ) ، وأول تقويم للفلاح (روزنامة زراعية) ، أول تجربة بستنة اعتمادًا على أشجار الظل ، وأول نظرية في نشأة الكون وعلم الكونيات ، أول مُثُل عُليا أخلاقية ، أول أقوال وأمثال ، و أول قصة خرافية تقوم ببطولتها الحيوانات ، و أول مناظرات أدبية ، وأول متشابهات مع الكتاب المقدس ( متوازيات مع التوراة ) ، أول قصة قيامة ( بعث )وأول «قديس جورج» (مار جرجس) ، أول حالة انتحال أدبي ، وأول عصر بطولي للإنسان ، أول أغنية حُب ، وأول فهرس للمكتبات ، و أول عصر ذهبي للإنسان ،و أول رثاء طقوسي ، أول بطل عدو مسافات طويلة ، أول صورة مجازية في الأدب ، أول حوض سمك ( أكواريوم ) ، و أول تهويدة ( أغنية تغري الطفل بالنوم ) .
ولعل ما اشير اليه في هذا المقال عن العراق نقطة في بحر كنوز العراق المعرفية وحضارته ، فالعراقيين القدماء كانوا أول من أسس لقواعد العلوم ، وسبقوا اليونان وروما وبلاد فارس والهند في وضع الأسس الأولى لعلوم الجغرافية بفروعها المختلفة حيثُ دون العراقيون خرائط وقوائم بأسماء البلدان والجبال والانهار والبحار والمدن والقرى في العراق والاقطار الأخرى ، بجانب تدوين جداول جغرافية بأسماء الأقاليم والمواقع المهمة لتسهيل المواصلات وتعريف المسافات بينهما للسائح ولا تزال الأسس العراقية القديمة في علوم الجغرافية نافذة حتى يومنا هذا بنفس الطريقة و الكيفية العراقية القديمة .
ولم تعرف البشرية معنى متعددة القوميات الا عندما أنشأها العراقيون ،، وهي الإمبراطورية الأكادية التي قامت سنة 2334 ق.م التي أسسها سرجون الأكادي المعروف بسرجون العظيم ( نحو 2334 -2279 ق.م ) .
وامتدت هذه الإمبراطورية من الخليج العربي حتى جزيرة قبرص متضمنة ما يُعرف حاليا بسوريا والكويت والأردن وبلاد الشام عمومًا ، وأجزاء من آسيا الصغرى بجانب العراق .
أما أول كاتب في العالم معروفٍ بالاسم ، فهي إنخدوانا ( إنخيدوانا ) الكاهنة العليا في إمبراطورية أبيها سرجون في سومر و كانت شاعرة بارعة وهي أول مؤلِّف يعرف بالاسم في تاريخ العالم، وقد اشتهرت بتراتيلها الثلاث الموجهة إلى الإلهة إنانا: السيدة ذات القلب الأعظم وتمجيد إنانا، بجانب تأليفها 42 قصيدة تتعلق بمشاعرها الشخصية تجاه عدد من القضايا المختلفة .
و اخترع العراقي القديم الأدبَ منذ ملحمة كلكامش ( كُتبت نحو 2150- 1400 ق. م ) التي تحكي قصة كلكامش؛ ملك أوروك نصف الأسطوري، ورحلته في البحث عن معنى الحياة مجابهًا الموت المحتوم.
ومن أقدم المدونات القانونية التي ابتكرها العراقيون ، هي شريعة الملك البابلي حمورابي (1792-1750 ق.م)
هذه العبقرية العراقية تفسر كيف صمد العراق امام حملات الغزو عبر التاريخ وحتي عالمنا المعاصر، واما كل تدمير من جانب المغول والتتار والأمريكان وغيرها ظل شعبها صامدا متماسكا بالحياة والبناء والتعمير والعلم وبناء الحضارة ، فبناء الحضارات فن لا يستطيعه الا أهل العقل الراجح والذوق الرفيع .
سارة طالب السهيل