أدب وفنمقالات

خريف يوتيبوري* مدينة غوتنبرغ السويدية

#الشبكة_مباشر_غوتنبرغ_د. سناء الخزرجي

ارتدت وفاء ملابسها على عجل واستقلت الباص المتجة إلى مركز المدينة، وكأنها على موعد عزيز ولكنها في الحقيقة كانت تهرب من برد الجدران والثلج الأبيض الذي أصبح يغطي زجاج النوافذ. اتجهت بآلية غريبة نحو أول كافتريا في

المدينة ثم ابتاعت القهوة، وبعدها جلست تنظر إلى خطوات القادمين بلا مبالاة وشريط الذكريات يمر سريعاً في ذاكرتها.

تسلل الحزن إلى قلبها قائلة، تحدث نفسها: وكأنني أعيش في بلدين.. بلد المستقبل الجديد والغامض وبلد الماضي والذكريات، لا أعرف لماذا أسمح لتلك الذكريات اللعينة أن تعبث برأسي؟!…. لماذا لا أفرح بذكرياتي الجميلة التي عشتها في

مراحل عمري الأخرى، تبّاً وكأن الزمن توقف عند خيانته .. سامر.. لم أتوقع أبدا أن يجرؤ على خيانتي ولم أنتبه إلى عشقه رحمه، التي فاجأتني بغدرها. تظن نفسها شقيقتي وأنا أيضا كنت قد نسيت كل شيء عن قصتها القديمة، ولكنني لم

أنس وصية أمي رحمها الله بأن أُحسن إليها كما كانت تفعل. آاااه… أين أنت ياأمي لتري ماذا فعلت بي ولم أستطع جرحها وفضح أصلها الذي لا أعرفه.

: بردت قهوتي، لأُحضر غيرها……

سامر طعنة الغدر في قلبي الذي أحبه وهام به، وكل مشاعري التي وهبتها إياه لم يكن يستحقها أبداً، ولم يفهم اني سأقتله برحيلي عنه وإلى الأبد. لم يكن يربطني بتلك الحياة شيء ولم أُنجب منه فغادرته سريعاً، الطبيب الأحمق… عندما

دخلت البيت فوجئت بهما يتبادلان القبل وكانا منسجمين لدرجة أنهما لم ينتبها لوجودي!!

لم أصدق وقتها ما رأيت!! يال جرأتهما… ورغم وقاحتهما إلا أنهما ارتبكا عندما اكتشفا وجودي فجأة أمامهما. لا أذكر ماذا قلت وقتها ولكني تمتمت بكلمات لا علاقة لها بما رأيت وكأني كنت أُغطي على جريمتهما. ثم ذهبت وعيناي جاحظة

وجامدة مما رأت، سمعتها تقول لأختي فيما بعد بأنني أشعر بالغيرة منها. وما سمعت منها جرحني تماماً كجرح المشهد المؤلم. بالتأكيد لأنني اعتبرتها ابنتي وأعطيتها الكثير ولم أبخل عليها بشيء. بل اعتنيت بها أكثر من شقيقاتي

الحقيقيات.

انتبهت وفاء عندما فاجئتها طفلة شقراء صغيرة ظهرت أمامها فقطعت مسلسل الذكريات وو قفت تبتسم لها ووتداعبها، فلم تستطع مقاومة البراءة والنقاء. بادلتها الابتسامة ثم ركضت الطفلة نحو أمها التي ابتسمت هي الأخرى
.
قالت وفاء في سرّها: كم هم ودودون الناس هنا، مجتمع جميل يعيش ببساطة و يمارس أفراده حياتهم وتفاصيل يومهم وكأنهم بلا مشاكل أو هموم. بالتأكيد لديهم ولكنهم لا يتوقفون طويلاً عندها كما يفعل أكثرنا نحن العرب، يواجهونها

بشجاعة ويواصلون حياتهم. ليتني اتعلم منهم، ربما سأتعلم فيما بعد….

رنَّ الهاتف، أنه أحمد: أهلاً حبيبتي، كيف حال البنات؟

: بخير ولكني أنا لست بخير…

: الاكتئاب مرة أخرى، لماذا؟ اشغلي نفسك لا تستسلمي وفاء أرجوك.

: أشعر بالوحدة، أحتاجك لتعتني بي….

: ماذا أفعل فأنا أنتظر ولا أعرف كم سأنتظر…

: لم يصلني شيء لحد الآن، أنا أيضاً أنتظر ولكني سئمت.. لم أعد أحتمل وحدتي دونك.

: تحمّلي وفاء فأنت لست وحدك، فكري في هذا…

: نعم صحيح، سأذهب الآن لأحضر البنات من المدرسة.

: سأكلمهما في المساء، مع السلامة.

كانت سنة قاسية عندما انفصلت عن سامر واستسلمت بعدها لاكتئاب استمر شهور لم تعدّها، ربما لأنها أسقطت تلك الشهور من عمرها ولكن ذاكرتها العنيدة لا تزال عالقة بكابوس الأمس. في ذلك الوقت ظهر أحمد في حياتها وكان يعرفها

من قبل، مديرها في العمل ولم تأبه لأعجابه وقتها فقد كان قلبها مشغولا برجل آخر. كان يكبرها بسنوات، مهندس وسيم ويبدو أنه كان يتابع أخبارها ورغم شعوره بالأسى نحوها ولكنه شعر بارتياح خفي لأنها تطلقت.

شجعها على العودة للمكتب ومتابعة دراستها التي أجلّتها طويلاً بسبب ظروفها السيئة، وأصبح صديقا لها يعتني بها ويسمعها وكان صبورا، وذكيا في التعامل مع أزمتها. ثم مرت السنوات سريعا فلم تأبه كثيرا لتأخر الانجاب، وانشغلت بدراستها

التي انتهت بحصولها على شهادة الدكتوراه. تغيّرت حياتها جذرياً معه ولكنها لم تحاول التصالح مع الماضي أو تقبّله كما هو، وكلما ظنت أنها اقتربت من النسيان تُفاجئها كوابيس الليل التي تبدو حقيقية أحياناً وأحياناً تأتي غامضة بإشارات لا

يستعصي عليها حلّها وفهمها.
د.سناء الخرجي
السويد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى