تولى السيد مصطفى الكاظمي (54 سنة) رئاسة مجلس الوزراء في (7 /5 / 2020)،وكان للعراقيين موقفان:
الأول- يرى انه لا يختلف عن سابقيه وانه جاء بموافقة احزاب السلطة المتهمة بالفساد،
الثاني- يرى ان الرجل مستقل وينبغي ان نعطيه فرصة.وكنا دعونا حينها الى منحه مئة يوما لنحكم بعدها له او عليه.
وبدآ ينبغي ان نشير الى أن الكاظمي واجه في بداية تكليفه وضعا معقّدا..فهو استلم خزينة خاوية من سلفه عادل عبد المهدي،والعراق مدين للبنك الدولي،وتصاعد الأصابات والوفيات في الموجة الثانية لفايروس كورونا وتهديد النظام الصحي،وتضاعف نسب البطالة والفقر،وتهديد امني يطال المنطقة الخضراء،وتعدد المليشيات وعدم قدرة الدولة بالسيطرة على السلاح،وعودة متظاهري انتفاضة تشرين،و(دكات!)عشائرية في البصرة وميسان وبغداد..وخطر يتهدد حياته من القوى الشيعية السبعة التي رشحته!.
وكنا استطلعنا آراء العراقيين مرتين في أول شهرين من حكم الكاظمي انقسم فيها العراقيون بين من عقد الأمل عليه في الأصلاح،وبين من فقد الثقة به،وبين المتردد الذي ينتظر ما سيحدث في قابل الأيام.وبانتهاء المئة يوما،اجرينا الاستطلاع الثالث في (5-6/9/2020)لتقويم اداء الكاظمي شارك فيه (3843) بينهم اكاديميون ومثقفون واعلاميون..توزعت اجاباتهم على اربعة مواقف:
الأول، يثمن اداء الكاظمي،بوصفه افضل رئيس وزراء حكم العراق،ولديه نية حسنة ببناء دولة من الصفر،لكن اعداءه أقوياء ويمتلكون دعما خارجيا،ويعرف ان ادواته للتغيير الثوري ضعيفة،او تؤدي لفوضى.
والثاني،يرى فيه شخصية استعراضية،مستشهدا بأن حكومته فيسبوكيه بدون تخطيط ،يعتمد على الاعلام الالكتروني..ولم يمسك احدا من رموز الفساد الكبيره،وانه يتخذ قرارات ويتراجع عنها.
والثالث، يقف منه موقف الشك المريب بقولهم:لقد ابتلعنا الطعم الذي ألقته الأحزاب الفاسدة ليسوقوه للشارع المنتفض فظن الناس أنه ضدهم فتقبلته الأكثرية،وبعد ثلاثة أشهر لم يقدم شيئا حقيقيا في مشروع بناء دولة المؤسسات،او محاربة الفاسدين.
والرابع، يأخذ دور الناقد المتعاطف بأن لديه المنهج،لكنه متردد او بطيء في السير بمنهجه بهمّة وجرأة.
وخرجنا بثلاثة استنتاجات في حينها بأنه: افضل رئيس وزراء مقارنة بالذين سبقوه بعد التغيير،وان نسبة غير الراضين عن عملية اختياره رئيسا للوزراء وغير الراضين عن ادائه في الشهر الأول لتوليه الحكم انخفضت في الشهر الثالث لصالحه،لكنه ما يزال لا يحظى بمقبولية عالية بين العراقيين.وحددنا في حينه أهم أربع قضايا في الحكم على اداء الكاظمي تتلخص:باستعادة هيبة الدولة بفرض سلطة القانون،محاسبة قتلة المتاظاهرين واطلاق سراح المخطوفين،اتخاذ اجراءات حاسمة بحق الفاسدين واستعادة المليارات المنهوبة،وتأمين اجراء انتخابات مبكرة نزيهة.
نتائج استطلاع بعد 7 اشهر.
النتيجة الرئيسة التي خرج بها (استطلاع 28-29/كانون ثاني/2021) ،أن شعبية السيد الكاظمي ومستوى الثقة به قد انخفضتا كثيرا. فقد وصفه اكاديميون وأعلاميون بأنه اظهر في بدايته حماسته وقوته وشجاعته..واستبشرنا خيرا، لكن كثرة التحديات وحجم الفساد جعله يستسلم، ولم يحقق مطالب العراقيين باظهار قتلة المتظاهرين ومحاكمة الفاسدين والتخلص من الميليشيات الخارجة على القانون.فيما وصفه آخرون بأن فهمه قاصر لاوضاع البلد لضعف امكاناته القيادية فيما العراقيون يريدون حاكما قويا,وأنه يعمل بمبدا سياسة الوعود الكاذبة التي سئمها الشعب العراقي..وصارت مهمته زيارة فواتح الضحايا الذين يعرف من قتلهم،ولا يستطيع الكشف عنهم.
وجوابا على استطلاعنا،يتساءل الأكاديمي الدكتور هاني الحدثي:هل توقف الفساد في العراق او حتى ضعف؟.وهل تم اضعاف المليشيات لصالح سلطة الدولة؟.ويجيب بأن المتابعة الدقيقة تشير الى ان الفساد تعاظم،حتى ان البرلمان فشل في تحقيق النصاب لاستجواب محافظ البنك المركزي المتهم باهدار اموال الدولة،وان الميليشيات تعاظم دورها،ولم ينجح في ايقاف تهديداتها له شخصيا عدا عن توسع نفوذها، ما يعني ان الكاظمي لم يختلف منهجا عما سبقوه انما اختلف في طبيعة الاعلان.
محنــة الكـــاظمـي.
تتحدد محنة السيد الكاظمي بأنه لم يستطع تحقيق أهم ثلاثة مطالب:محاكمة الفاسدين،كشف قتلة المتظاهرين،وحصر السلاح بيد الدولة.
ففيما يخص حيتان الفساد،فان الفساد بدأ في الولاية الأولى لحكم المالكي (2006) واستفحل في ولايته الثانية ليحتل العراق المرتبة الثالثة في قائمة الدول الاكثر فسادا في العالم بحسب منظمة الشفافية العالمية.وان المالكي اعترف علنا بان لديه ملفات للفساد لو كشفها لانقلب عاليها سافلها وسكت عنها مع انها تعدّ في الشرع الأسلامي (خيانة ذمّة)،وكانت حكومته في ولايته الثانية أفسد حكومة في تاريخ العراق،نجم عنها أن شيوع الفساد لم يسقط فقط هيبة الدولة بل اسقط قيما اخلاقية ودينية اوجزها المتظاهرون بأهزوجتهم(باسم الدين باكونه الحراميه، نواب الشعب كلهم حرامية)،وتحول الفساد في زمنه من فعل كان يعدّ خزيا الى شطارة،وبح صوت المرجعية من مطالبتها بماحكمة حيتان الفساد،وتراجع حيدر العبادي الذي تعهد بمحاكمة الفاسدين مبررا ذلك بأن الفساد صار مافيا تشكل خطرا على من يستدهدف حيتانه.
ومع ذلك فان الكاظمي بدأ في (10 ايلول 2020) باصدار قائمة باسماء ستة وزراء سابقين،ومدراء عامين،ورئيس هيئة التقاعد العامة السابق،ورئيس هيئة دينية،وآخرين،تسارعت بعد خمسة أيام لتشمل اكثر من خمسين مسؤولا كبيرا ومصرفيين ورجال اعمال..قام جهازمكافحة الارهاب بتنفيذ القرارات الصادرة عن اللجنة التي شكلها لمكافحة الفساد،ليشرع بتنفيذ استراتيجته في البدء بمحاسبة الخط الثاني من الفاسدين وما دونهم بما يمهد سياسيا واجتماعيا وسيكولوجيا الوصول الى (الحيتان).ومع ان الشارع العراقي بارك هذه الخطوة الشجاعة، لكن الكاظمي راجع نفسه والتقط العبرة ممن سبقوه..فتوقف.
وفيما يخص الكشف عن قتلة المتظاهرين،فبحكم معرفتي به ايام كان رئيس جهاز المخابرات،فانه استطاع أن يكشف عددا منها وحرر مختطفين،وانه متعاطف مع عوائل المخطوفين،بدليل اننا حين قدمنا مذكرة تطالب باطلاق سراح توفيق التميمي ومازن لطيف، التقى عائلة التميمي ووعدها بالعثور عليه واطلاق سراحه..ولم يستطع.
وفيما يخص محاسبة قتلة المتظاهرين،فأن منهج الكاظمي هو ان يكون القرار الفصل فيها للقضاء. غير ان الشارع العراقي يرى ان الكاظمي يخشى الكشف عن القتلة لتورط قيادات احزاب السلطة وفصائل مسلحة لها نفوذ سياسي وعسكري متهمة بقتل اكثر من 574 شهيدا.
رهــان الكـاظمـي
تمتاز شخصية الكاظمي بثلاث صفات: ليس عدوانيا، يعتمد على القضاء في حسم القضايا الجرمية، وأنه يميل الى ان يكون التغيير سلميا..فضلا عن نشاطه وتواضعه.ولهذه الأسباب فانه وضع رهانه على انتخابات (10/10/21). وانطلاقا من تصريحه في (28/12/21) بأن ” العراق على مفترق طرق ولن نسمح ابدا بتهديد الأمن والأنتخابات”،
وتوكيد احدث لمجلس الوزراء في (2 شباط 2021) يدعو الجهات المعنية لأتخاذ كل الأجراءات لأنجاح الأنتخابات،فأن دلالاتها تعني انه (ناوي) فعلا على تحقيق رهانه. فان جرت الانتخابات في تشرين ونجح في تأمين أجواء يستطيع فيها المواطن انتخاب من يشاء،عندها ستكون بداية التغيير حتمية،وسيكون المجال القانوني والسياسي والدعم الشعبي مهيئة له ليفي بتحقيق ما لم يستطعه،وعندها سيكون بنظر العراقيين بطلا حكيما. وأن لم يستطع،عندها سيرى العراقيون أن نتائج هذا الاستطلاع قد صدقت في وصفه..وهذا ما لا نتمناه له وللعراقيين.
*