مرة اخرى ..
اجد نفسي اكتب عن ( نهاية المجتمع التقليدي ) وتعقيدات الحداثة ، وكيف .. ان تكنولوجيا التواصل والاتصال ساعدت على تغيير نمط حياتنا ، واتصالاتنا ، وتقاليدنا ، واحوالنا .. حتى تلاشت الكثير من مفردات كلماتنا ، وعاداتنا ، ورومانسياتنا ، وتأملاتنا .
هل اذكركم باقلام الحبر ( الباندان ) .. وكيف كنا نحتفظ بها لسنين طوال ، كانت سجلا لحياتنا ، ولها موقع خاص في قلوبنا .. وكأنها وسام تكريم على صدورنا .
كنا نكتب رسائل الشوق ، وادب التوق .. بمدادها ، واسرارها .. الى ان جاءت اقلام الجاف اللعينة ، التي لا تصمد سوى لايام .. وكأنها على على عجلة من امرها ، والى قارعة الطريق مصيرها .
و قصة المناديل ( الچفافي ) التي نشتريها ونستخدمها ، ونغسلها ، ونكويها ، ونحتفظ بها لمدة طويلة .. ولنا معها ذكريات حميمية ، و ( فلاونزية ) .. الى ان غزتنا المناديل الورقية ( كلينكس) ، التي نستخدمها لغايات ، ثم نرميها في سلة النفايات .
كانت الرسائل البريدية تكتب بجهد واناقة .. وبحب ولياقة .. ولا ننسى ابدا كتابة الجملة المأثورة ( شكرا لساعي البريد ) .
كان وصول الرسائل ، يحتاج الى ايام وشهور .. واحيانا تعود الينا الرسائل حزينة ملتوية ، كما هي .. بسبب تغيير في العنوان .. او من تقاعس في خدمة الانسان .
كان الاشوريون ..
اول من اهتدى الى سرعة وصول الرسائل .. وكانت الامبراطورية الاشورية سباقة في بناء الطرق السريعة .. بهدف وصول الرسائل الى المركز خلال ايام .
وفي صدر الاسلام .. كان الرسول العربي .. يهتم كثيرا برسائله التي ارسلت الى ملوك الفرس والروم ومصر والشام والبحرين وعمان ونجران .. كانت تنقش على جلد ناعم وانيق ، وبخط عربي دقيق .. وكان حملة الرسائل من امهر الفرسان ، وافضلهم فصاحة في الكلام ، و شجاعة ، وكياسة ، ووسامة .
وفي عصر الخلفاء الراشدين ..كانت المدينة المنورة مركزا لاستلام الرسائل التي ترد من الامصار الاسلامية ، وجبهات القتال التي خاض فيها المسلمون الاوائل فتوحاتهم المصيرية .. في معارك القادسية ، واليرموك وغيرها .
اما في العصر الاموي .. فقد وضع الخليفة معاوية بن ابي سفيان نظاما بريديا مبتكرا يتناسب ، وحجم واتساع رقعة الفتوحات الاسلامية .. وكان المركز البريدي الرئيس في مدينة البصرة ، لا يبعد عن مكة .. سوى مسيرة ثلاثة ايام ، وكانت الخيول العربية الاصيلة تنقل الرسائل بسرعة مدهشة الى مئات المحطات البريدية الجديدة .
وفي عصر المماليك في مصر .. كان الخليفة بيبرس يستخدم الحمام الزاجل لنقل الرسائل .. ويبني الابراج العالية ، لتكون دالة للحمام الذي ينطلق بتغريدة .. ثم يعود من الاماكن البعيدة .
العباسيون .. ولعوا ايضا بالشؤون البريدية .. وكان ابو جعفر المنصور مغرما بالبريد وتطوراته .. اما هارون الرشيد فقد جعل من الرسائل عنوانا لحضارة دولته .
ومن طرائف استخدامات البريد .. اهتدت بعض الاقوام الى استخدام الحليب في كتابة الرسائل السرية ، المكتوبة على جلود مدبوغة وناعمة .. ولاتظهر حروف كتابتها الا في حالة وضع الرماد فوقها .. وبعضهم استخدم ( مرارة ) السلحفاة ، في كتابة رسائله التي تقرأ في الليل والظلمات .
لكن بعض الحكام القساة ، من غلاظ القلوب .. كتبوا رسائل التهديد والوعيد والاهانة على رؤوس محلوقة لسعاة البريد .. وما ان يصل ساعي البريد الى المكان .. يرفع الفروة المصنعة من على رأسه .. ويكشف عن محتوى الرسالة .. وبعد القراءة ، يقطع رأسه ، جزاء فعل لم يرتكبه .
وفي القرن السادس عشر .. هيمنت عائلة اوربية واحدة على نظام البريد .. وهي عائلة ( تاكسيس) ومفردة تكسي المتداولة في يومنا هذا .. مشتقة من اسم العائلةنفسها
وكان الحدث الابرز .. ظهور اول طابع بريدي مخرم الاطراف .. وباللون الاسود حاملا راس فكتوريا ملكة بريطانيا ، وهذا العصر الفكتوري .. هو الذي منح شكسبير تلك القدرة الفائقة في كتابة المسرحيات العظيمة .
كان الطابع البريدي اختراعا مهما ، من اختراعات القرن التاسع عشر .. وكان سببا بان تكون الرسائل مدفوعة الثمن وباجر زهيد .. وكانت وسيلة لنقل اخبار المسرحيات ، واللوحات ، والاختراعات ، والتجمعات الثقافية والعلمية .
في وسط السبعينيات من القرن الماضي .. كنت في باريس ، وكانت قيمة الرسالة الواحدة التي تصلني من بغداد .. لا تقل قيمة عن رسائل باريس .. وما فيها من متعة بصرية ، وقيم جمالية وفكرية .. وكم كنت ابحث عن رسائل الاهل والاصدقاء ، بلهفة ومتعة .. وسط كم هائل من رسائل الاعلانات التجارية ، واشعارات الضرائب الحكومية .
ومرة كتبت ..
وانا استقبل احد الاصدقاء القادمين من بغداد الى باريس /…
هذا الذي اللقاء الذي حدث يخرج من دائرة النسيان تماما .. كان قادما من بغداد الى باريس.. شاب عراقي اسمر ، مازالت حرارة الشمس تلفح وجهه .. ومازال الفرح يملأ عينيه .. وعطر الوطن يمنحه حبا واملا وسعادة ، كنا قد احتضناه بشوق ورغبة .. متناسين عذابات الغربة والامها .. نبحث بلهفة في حقيبته ، عن الرسائل التي جاء بها الينا ) ..
واليوم .. تصلنا الرسائل من مشرق الدنيا ومغربها .. قبل ان يرتد لنا طرف .. وقبل ان نهم بكتابة حرف .. ولا داعي لنشكر ساعي البريد .. هذا العامل باجر زهيد .
في عام ( ١٩٧١ ) اهتدى المهندس الامريكي ولاول مرة .. بنقل رسائل الكترونية بسيطة من جهاز الى اخر .. عبر برامج جديدة و مبتكرة .
لكن الاكثر دهشة .. كان في عام ١٩٨٩ .. وهو العام الذي انتشرت فيه خدمة استخدام البريد الالكتروني .. بشكل تجاري واسع ومنتظم ، وكان بحق حدث تاريخي فاصل بين بريد السلحفاة .. وبريد الباشوات ، تجسد باختراع البريد الالكتروني متعدد الوسائط والمهمات / في النص والصورة والاصوات .
وهكذا .. حلت علينا نعمة استخدام الرسائل الالكترونية .. ونعمة التواصل التفاعلي السريع ، فلا قلق .. ولا انتظار لايام ، واسابيع ، وشهور .. لقدوم ساعي البريد .. ولا بخشيش .. ولا تحشيش .
لكن هذا الاختراع السعيد / ايها العزيز .. قتل فينا رومانسية القراءة واحلامها ، واضاع علينا شغف الانتظار ودهشة الانبهار .. واحزن الملايين من العمال والعاملات ، و قطع ارزاق الذين يديرون المطابع ويصممون الرسائل و الكارتات ..&
د كاظم المقدادي