أدب وفن

الطوبوفيليا وعناصر الطبيعة الأربعة…بقلم فائزة داوود ..سوريا

الشبكة مباشر

الطوبوفيليا وعناصر الطبيعة الأربعة

ليس جديداً القول أن المكان في الأعمال الروائية لا يقل أهمية عن الأبطال الفاعلين، فيما يعتبر في الإبداع السردي على تنوعه، أول أثافي الوحدات الأساسية لبنية النص الفنية (المكان, الزمان, الشخصيات الصانعة للحدث) وإذا اعتمدنا الرأيين السابقين يحق لنا أن نتساءل ما إذا كان مجرد وجود هذا البطل يكفي لينال الفضاء شرف رئاسة النص أو ليكون أحد أهم الوحدات التي يتكىء عليها السرد, أم ثمة شروط يجب توفرها لينال المكان هذا الإمتياز؟ ترى, هل تتعلق هذه الشروط في طريقة الدخول إلى التفاصيل وتوظيفها بما يتناغم مع حيثيات ومتطلبات النص, أم أنَّ المعلومة التي تكمن في المشاهد الظاهرة والأدغال المستترة تعطي نفوذاً للفضاء الروائي يضاهي إن لم يتفوق على نفوذ الأبطال الفاعلين في النص الروائي أو حتى الملحمي. ترى, أيكون للتنوع والتخييل أثر في منح المكان دور البطولة أم أن الثبات ونقل الواقع المجرد يدخلان تحت مصطلح الإخلاص للمكان ,وهذا يعني بالتأكيد جمالية الفضاء السردي وفوزه بلقب البطل دون منازع. ترى هل يستطيع السارد إذا أحاط بكل دقائق المكان أن يجعله حاضراً بقوة في النص ومتناغماً مع الفكرة؟ وماذا عن الإحساس والتفاعل أو الحميمية أو ما أسماه باشلار (الطوبوفيليا)؟ أيكون هذا المصطلح هو البصمة التي يحتاجها المكان ليصبح البطل بلا منازع؟ ترى ما علاقة هذا المصطلح بحياة المبدع؟ بمعنى آخرهل هو مرهون بعمر ٍمحدد أو بظرفٍ معين أم أن الأمر في كليته مرتبط بالحدث وتفاصيله ومدى تأثر المبدع بأجوائه الخاصة؟ للإجابة عن هذا الأسئلة لابد من الدخول إلى فلسفة مصطلح (الطوبوفيليا) ومكوناته وأثره في النص الإبداعي.
بداية لابد من القول أن حالة الحميمية بما يخص المكان هي حالة لا يمكن افتعالها أو التظاهر بها لأنها عدا عن كونها تنبع من حالة حب صادقة وعفوية فهي كذلك علاقة حنين لا تخبو نارها بمرور السنين بل على العكس تزداد تأججاً وحرارة, وبدونها وعلى الرغم من توفر ماديات المكان لن يكون الأخير بطلاً، لأننا إذا اعتمدنا الترجمة الحرفية لمصطلح الطوبوفيليا علمنا أنه يعني الحب للمكان أو محبة المكان، وهذا الحب متعلق بمصطلح البوجرافيا والذي يعني الحساسية الإنسانية العالية لأماكن وفضاءات معينة وإذا أضفنا مصطلح (كيسي) المسمى ذاكرة المكان ونعمة الإدراك وسلمنا بحقيقة أن الذاكرة البشرية هي ذاكرة انتقائية اصطفائية تبقي فقط على أمور أو صور بعينها وترمي ماعداها، ويرى الدارسون لفلسفة المكان أن الذاكرة في انتقائيتها هذه تبقي على ما أسعدها أو أحزنها أوأثر بها بشكلٍ ما وترمي الهامشي و غير المؤثر، وكما هو معروف فإن لعبة الذاكرة هذه حالة يشعر بها جميع البشر بدون استثناء إلا أن ما أضافه(كيسي) من جديد على المكان يتعلق بأن الذاكرة كخبرة معاشة لا تختار مسكناً أو اسماً مألوفاً لها بل تكون الذكريات انتقائية في اختيارها لأماكنها التي تحط عليها, ومن ثم فهي تتعلق بالمواضع التي تتناغم معها وتنسجم مع طبيعتها وخلف ذلك الانتقاء التبادلي الخاص بالذكريات والأماكن هناك أيضاً الألفة التي تنشأ عن تلك العلاقة بين الجسد الحي القائم بالإدراك ومكان معين, والمكان هو موضوع كان حميماً لأنه كان بيئة مناسبة للجسد ولأفكاره وأمنياته ورغباته, ومن ثم قد يستعاد الآن من خلال الذاكرة كونها إحدى أدوات الإستدعاء لذلك المكان القديم الحميم, أو حتى أداة للتلصص عليه من خلال الذاكرة.
والسؤال: ماذا عن المكان في النص الإبداعي وما هي فضاءاته؟ بمعنى آخر هل ينقل المبدع هذا المكان الحميم كما هو على أرض الواقع, أم ان الذاكرة الخلاقة تنأى بالمكان الروائي عن المكان الصامت أو المكرور والمؤطر بجغرافية محددة إلى مكان بعيد وتسميه فضاء، فيكون الأرض وما تخبئه في رحمها وكذلك ما تحمله وما يسبح في مائها ويطير بينها وبين السماء؟
قد يبدو لهذا السؤال خصوصية لأنه يعني المبدع فقط ومدى قدرته على التحليق بالمكان، لكن ليس بعيداً عن الواقع كما يخيل للبعض، بمعنى آخر على الأديب أن يحمل الواقع المادي ويحلق به في جهات المكان الست, وأقصد هنا تحويل كنوز الذاكرة المعتقة إلى ما يسمى الخيال المكانى أو المكان الفانتازي، بمعنى آخر أرى أن الأمر يتعلق بمدى قدرة الأديب في تحويل أبسط الأشياء إلى عالم عجائبي ومدهش وفي الوقت ذاته أن يكون في هذا التحويل إغناء للنص وخدمة للفكرة، هذا يعني أنه يقيم نظريته عن الخيال المادي بإقصاء القوالب المتداولة والمتعارف عليها في الواقع الشعبي المعاش والتي أضفى عليها طول الاستعمال والتكرار طابعاً آلياً صرفاً ومن ثم دفعه بنفس مرهفة وشفافة ورقيقة فيمكنه من صياغة الجانب الآخر من الخيال وهو ما يسمى بخيال الحركة أو الخيال الحركي ولن يستطيع الأديب أن يخوض في المكان بخيال بعيداً عن الطوبوفيليا والواقع المادي البسيط الذي تمثله عناصر الطبيعة الأربعة (الماء, الهواء, النار, التراب) واذا بدأنا بالتراب (الأرض) التي تمثل صورة للثابت والعدم علينا أن نتذكر الماء والنبات والحياة التي تكمن في رحمها، أما الهواء فيعطي إحساساً بالانفتاح واللاتشكل والريح مرتبطة به مندفعة لا ترى إلا في حركة مثل رفرفة علم واهتزاز ورق الشجر وعاصفة مدمرة ..الخ وكذلك الماء فهو مرتبط بالنقاء والنظافة لكنه كذلك مرتبط بالطوفان والموت والدمار كما أنه مرتبطة بالأعمال الجحيمية، وبذلك يهدد النظام الأرضي, ودور الماء المدمر ويبدو ذلك أكثر وضوحاً في الملاحم السومرية الإينوما إيليتش وجلجامش وكذلك الكتب المقدسة خاصة منها النصين التوراتي والقرآني، وما يجوز على الماء ينطبق على النار فهي قوة تضيء وتحرق وهي تجلب الحياة والموت، وتبعاً لأسطورة بروميثيوس سارق النار هي رمز الحياة والخلق والخيال والإبداع والمغامرة. إذن على المبدع أن يشتغل بحب على تحولات هذه العناصر الأربعة البسيطة ليخرج إلينا بفضاء روائي يبدو كما لو أنه حقيقي ولكنه ليس كذلك، ويرى علماء النفس أن مرحلة الطفولة في حياة الإنسان هي أكثر المراحل قدرة على تسجيل صور الأماكن، والذاكرة الطفلية تحتفظ ربما طوال الحياة بالأحداث الهامة كما أنَّ علاقة الإنسان بعناصر الطبيعة الأربعة وتشكلاتها تبدو عند المبدع من خلال نصوصه روائية كانت أم قصصية وربما شعرية، إن كان من خلال البيت الأليف الذي ولد في إحدى زواياه وعاش فيه أو من خلال الشوارع والأزقة التي عرفت مشاكساته وغرامياته الأولى، كما تكون لديه مشاعر خاصة تجاه تشكيلات معينة, مغارة, كهف، صناديق أعشاش، نوافذ، أبواب، أصداف قواقع، أشجار، زهور، أنهار……إلخ . والقياسات الهندسية والمساحات هي لأماكن حميمة عرفها الإنسان في طفولته ومراهقته وهي على الأغلب لزوايا أو منعطفات لمكان عاش فيه الأديب, بيت, قرية, حي, مدينة, وطن. وهنا لابد من القول أن الأعمال الإبداعية الكبرى مدينة في جانب كبير منها إلى حالة العشق الكبير للمكان الأول الذي عرف فيه المبدع الخطوات الأولى والحروف الأولى والذي أطلق عليه مصطلح الطوبوفيليا، وهذه الحميمية مدينة بكل تفاصيلها لمرحلة الطفولة وكذلك للمراهقة، والسؤال الذي يطرح نفسه يتعلق بما إذا كانت الحميمية المتاخرة لأمكنة جديدة تصنع عملاً إبداعياً يوازي في جمالية فضائه فضاء الطفولة والشباب.
فائزة داود

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى