أخبار العائلة العربية في المهجرأدب وفن

التقى الفيلسوف سارتر والشاعر لويس أراغون د. عبد الرضا الطعان: بدر شاكر السيّاب منحني أهم شهادة

الشبكة_مباشر_حاوره في أنتويربن: د. ضياء الجنابي

لا يزال الدكتور عبد الرضا الطعان المقيم في بلجيكا وهو في التسعين من عمره محتفظاً بحيويته وبشاشته وذكرياته الطرية التي تعود إلى أكثر من سبعة عقود مضت، ومن خلال ذاكرته المتقدة تحدث لنا البروفيسور العراقي الطعان المقيم في بلجيكا عن مشاويره الأدبية وعن كتابته الشعر منذ نعومة أظفاره، وعن لقاءاته العديدة بمعظم الأدباء الرواد من العرب والأوروبيين، كما سلط الضوء على خلفيات تأثره بالمدارات الفنية والفكرية الحديثة.

شب الشاعر والأكاديمي عبد الرضا الطعان في أزقة مدينة الكاظمية في بغداد مع صديق صباه الشاعر الكبير مظفر النواب، وجمعتهما هموم مشتركة على الصعيد الثقافي والسياسي والاجتماعي، هموم تندلق من بين مجامر الإبداع والأدب، إضافة إلى علاقة حسن الجوار التي تزدهر في الحواري البغدادية العتيقة، حيث كانا في مرحلة الدراسة الثانوية يبدءان معاً المسير بشكل يومي من منعطف الزقاق ويتجهان مشياً على الأقدام صوب شاطئ دجلة حيث النوارس البيض وهي تسبح أو تطير جذلة فوق مويجات سارحة مطمئنة، فيقرآن الشعر في حضرة النهر ويتبادلان الآراء ووجهات النظر النقدية الانطباعية، وعن تلك اللقاءات يقول الطعان إنه كان “محظوظاً لأنه كان يستمع إلى تلك الأغاني الجميلة التي كان يكتبها ويلحنها ويغنيها مظفر النواب بصوته العذب”، وحين دخل الطعان كلية القانون والسياسية بضغط عائلي كونه يميل إلى الأدب والإبداع أكثر من القانون، راح يذهب إلى كلية الآداب يومياً ليلتقي صديقه النواب، ولكي ينغمر بالأجواء الأدبية والشعرية التي كانت تغص بها أروقة الكلية آنذاك.

ومنذ بواكير تجربته الإبداعية أدرك الطعان ضرورة التجديد في شكل ونمط القصيدة العربية، وآمن بضرورة العمل على شعرية النص وتحقيق وحدة الموضوع بدلاً عن وحدة البيت الشعري في القصائد الكلاسيكية، ووجد أن قصيدة التفعيلة صيغة فعالة قادرة على كسر القوالب الجامدة في الشعر العربي، ونتيجة اهتمامه بحركة التجديد المعاصرة تشكلت عنده علاقة حميمة مبنية على الاحترام المتبادل بينه وبين الشاعر الرائد بدر شاكر السياب حيث كان يزوره باستمرار في مقر عمله في مديرية الأموال المستوردة في بغداد، ومن خلال دراسته العليا في باريس كان يقرأ بتعمق المدارس الفنية الحديثة ونظريات الفكر الغربي لكي يواكب التجارب العالمية، فالتقى بالفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر الذي أهداه كتاب “الوجود والعدم”، والتقى كذلك بشاعر فرنسا الكبير لويس أراغون الذي أهداه ديوان “عيون إلزا”.

التقته الشبكة مباشر في مسكنه الكائن في مبنى مخصص لكبار السن في مدينة أنتويربن البلجيكية، وقد تم التطرق من خلال الحوار إلى أجواء ومناخات حركة التجديد في الأدب العربي التي انبثقت بعيد الحرب العالمية الثانية، وتحدث لنا الطعان بشكل تفصيلي عن ذكريات كثيرة ومثيرة جمعته مع كبار الأدباء والشعراء الرواد وكأنه يعيشها الآن.

• كيف تبلورت العلاقة بينك وبين الشاعر الرائد بدر شاكر السياب؟
– منذ بداياتي وأنا في سن مبكرة آمنت بعبقرية السياب، وعرفت أنه شاعر مجدد لا يشق له غبار، وإنه صاحب تجربة عميقة، وكنت تواقاً للقاء به وأسعى إلى التعرف عليه وقد عرفت من خلال الأصدقاء أنه يرتاد بشكل مستمر أحد المقاهي المشهورة التي تطل بشرفتها الكبيرة على ساحة حافظ القاضي في شارع الرشيد مقابل جسر مود – جسر الأحرار حالياً- مع جليسه الشاعر عدنان الراوي، وكانت لي آنذاك علاقة بالفنان التشكيلي الرائد محمد غني حكمت لأننا كنا نسكن في نفس المحلة، فصحبني إلى تلك المقهى وقدمني بالتعرف على السياب وكذلك الشاعر عدنان الراوي، وكان ذلك اللقاء يوماً تاريخياً ومفصلياً في حياتي ومفتاحاً لسلسة من اللقاءات المهمة بيني وبين السياب، ومن خلال الأحاديث عرفت أن السياب كان يعمل حينذاك موظفاً في مديرية الأموال المستوردة التابعة لوزارة التجارة في بغداد، فتحولت لقاءاتنا إلى مقر عمله فيما بعد بشكل متواصل، وفي تلك الفترة كنت يافعاً غض العود وبحاجة إلى دعم معنوي من أي شاعر مرموق كي أسند عودي في بداية مشواري الشعري، وأطمئن على تجربتي الإبداعية، فكيف إذا كان ذلك الشاعر هو السياب بثقله وفخامة قامته الإبداعية، وأهمية مكانته المؤثرة في الساحة الثقافية العراقية والعربية.

من خلال زياراتي المتكررة تجرأت أن أعرض على السياب قصائدي وأقرأها بصوتي له، وكان يصغي ويتفاعل معها ويبدي أحياناً بعض الملاحظات، وكنت استمع بكل أحاسيسي وجوارحي لملاحظاته كي أعمق بها تجربتي، ويوماً بعد يوم تشكلت بيننا علاقة عميقة مبنية على الاحترام المتبادل، وتيقنت أن قصائدي كانت تلاقي قبولاً لديه، وأذكر ذات مرة أهداني السياب نسخة من ديوانه “المومس العمياء” بطبعته الأولى الصادرة عن مطبعة دار المعرفة في بغداد بداية الخمسينات من القرن الماضي، وكتب عليها عبارة “إلى الشاعر المبدع عبد الرضا الطعان مع اعتزازي” وذيلها بإمضائه.. لم أتمالك نفسي من شدة الفرح يومها وطرت نشواناً أريد أن أخبر بها كل من أجده أمامي، واعتبرت أن هذه العبارة شهادة مهمة بشاعريتي واعتراف من شاعر كبير بنضج تجربتي إبداعياً وفنياً.

هذا الحدث عزز علاقتي به وزاد من تردادي عليه في مديرية الأموال المستوردة حيث كان يعمل، لا سيما أن هذه المديرية كانت تضم طليعة شبابية من المثقفين والشعراء والفنانين التقدميين على اختلاف متبنياتهم وتوجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية والحزبية من الذين كان لهم دور بارز في التطورات اللاحقة التي شهدها العراق أذكر منهم بالإضافة إلى بدر شاكر السياب كل من شكري صالح زكي وأكرم توفيق وإحسان جاسم شوقي وإسماعيل الشيخ علي وعبد الله عياش وعبد الجبار وهبي وغيرهم، ومن فرط علاقتي الوثيقة بهم شاركت في انتفاضة عام 1952م التي كان السياب وزملائه في مقدمة الانتفاضة وكان من بين المشاركين الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وكذلك عدنان الراوي وشخصيات بارزة آنذاك، وكان السياب يحمل على أكتاف المتظاهرين تارة ليلقي قصائده الوطنية وتارة يلقي خطباً حماسية، وكانت تلك الانتفاضة تدعو إلى تنحية الملك وإقامة الحكم الجمهوري وتشكيل حكومة وطنية تأخذ على عاتقها تأميم النفط، وإغلاق المكاتب الثقافية الأجنبية في بغداد التي كان لها أيد خفية تؤثر على القرار السياسي.

• حدثنا عن علاقتك مع مظفر النواب؟

– مظفر النواب ابن حارتي، وربطتني معه علاقة صداقة حميمة نتيجة التقارب في السن والاهتمامات المشتركة، بحيث كنا نلتقي بشكل شبه يومي ونمشي سوياً باتجاه النهر ونستمر في السير على شاطئ دجلة، وكان مظفر ذا صوت عذب وشجي ويجيد الغناء بأطوار عديدة، وأحيانا كان يؤلف أغاني من أشعاره وألحانه، وكنت محظوظاً لأنني كنت أستمع إلى تلك الأغاني الجميلة التي كان يكتبها ويلحنها ويغنيها بصوته العذب، وكنا بين الفينة والفينة نقرأ الشعر، أما أن أقرأ له فيستمع بإصغاء ويعطيني رأيه بقصيدتي، أو يقرأ هو وأعلق بما يمكن لي على ما سمعته منه، وهكذا دواليك طيلة فترة دراستنا في مرحلة الثانوية، ولكن عندما دخلنا مرحلة الدراسة الجامعية لم نكن سوية في كلية واحدة حيث دخل مظفر كلية الآداب قسم الفلسفة، وأنا دخلت كلية القانون والسياسية بغير رغبة مني سوى تلبية لإرادة أخي الأكبر، فبقيت مشدوداً ومتعلقاً بكلية الآداب ورحت أتردد بشكل شبه يومي عليها وألتقي مع صديقي مظفر وأشارك باستمرار في الأنشطة والفعاليات الأدبية التي تقام بها.

• كيف كانت علاقاتك مع الأدباء الآخرين من جيل الرواد؟

– بالتأكيد لا يمكن إقامة علاقة مع جميع جيل الرواد، لأن كل واحد منهم له عالمه الخاص ودائرة علاقات تختلف عن الآخر، ولكن أتذكر كانت لي علاقة جيدة مع الشاعر الرائد جواد كاظم وكنت ألتقيه في مقر مجلة “الأسبوع الأدبية” حيث كان يعمل آنذاك عضو هيئة تحرير فيها وقد تطورت علاقتي به بعد ذلك والتقينا في عدة أماكن وتجمعات مختلفة في بغداد.

• ماذا عن لقائك بالشاعر الفرنسي لويس أراغون؟
– لقد التقيت بالشاعر الكبير لويس أراغون عام 1958م في مبنى اللجنة الوطنية للكتّاب في فرنسا والذي يعتبر هو من أبرز مؤسسيها، وكان من تقاليد هذه اللجنة أن تقيم حفلاً لتوقيع الكتب في ذكرى تحرير فرنسا من النازية من كل عام، وكنت أحرص على الحضور في مثل هذه المناسبات أبان فترة وجودي في باريس لإكمال دراستي العليا، وعندما شاهدت الشاعر لويس أراغون لأول مرة انجذبت إليه بشكل تلقائي لأنه كان يساند القضايا العربية مثل حركة التحرير الجزائرية والقضية الفلسطينية وكل قضايا التحرر في العالم، وكذلك كان مهتماً بالأدب العربي والأدب الأندلسي بشكل خاص، وقد سمى أحد دواوينه بإسم “مجنون إليز” تيمناً بـ “مجنون ليلى”، والشيء بالشيء يذكر أن الشاعر الفرنسي المعروف جان مارسيناك وهو أحد تلامذة أراغون المقربين، أطلق صرخته بوجه أحد الأدباء العرب في فرنسا قائلاً: “أنتم العرب لماذا لا تصنعون شيئاً من أجل هذا الكتاب؟” وقال: “إنه أبرز مميزاتكم كشعب حضاري”.

وأثناء لقائي بالشاعر الكبير أراغون رأيت اهتماماً استثنائياً من قبله وحرصاً كبيراً على التحدث معي وكأننا نعرف بعضنا البعض من مدة طويلة على الرغم من فارق السن بيننا، وتجاذبنا أطراف الحديث بتركيز مني وهدوء منه، وحرصت على الاستماع أكثر من الكلام، لكي أستفيد من تجربته، وكان الحديث جله يدور حول أوضاع الوطن العربي المتأزمة آنذاك وعن العراق بشكل خاص، ووجدت عنده معرفة وتفهم كبير لأدق التفاصيل، وكان حريصاً في كل جملة على تأكيد موقفه المبدئي الإنساني من الأحداث، وفي نهاية اللقاء أهدى لي نسخة من ديوانه الشعري “عيون إلزا” وقد كتب عليه عبارة: “أهدي كتابي إلى الشاعر العراقي عبد الرضا الطعان.. من أجل أن يذهب إلى بغداد” وذيلها بتوقيعه، وعندما استلمت الكتاب منه غمرتني فرحة كبيرة ورحت أقرأه في تلك الليلة بنهم كبير.

• أين التقيت جون بول سارتر
– كذلك التقيت مع جون بول في مبنى اللجنة الوطنية للكتّاب في فرنسا، وكان ذلك في يوم توقيع طبعة جديدة من كتابه الفلسفي “الوجود والعدم”، وكان لذلك اللقاء وقع خاص على نفسي، كوني كنت قد تأثرت بأفكاره قبل سفري إلى فرنسا لإكمال دراستي العليا، حيث كانت أفكاره رائجة بين شريحة الشباب الواعي في تلك الفترة وأنا منهم، وكنا قد تعرفنا على كتابات سارتر والفكر الوجودي بشكل عام من خلال ترجمة الكاتب والناقد العراقي الكبير نهاد التكرلي، وفي ذلك اللقاء أهدى لي جون بول سارتر نسخة موقعة من كتابه “الوجود والعدم”.

• هل هناك قواسم مشتركة جمعتك مع شعراء جيلك؟ ومن هم؟
– نعم كنا مجموعة من الشعراء والأدباء الشباب المجددين، منهم الشاعر موسى النقدي والشاعر علي الحلي والشاعر رشدي العامل والشاعر والناقد الفريد سمعان والشاعر راضي مهدي السعيد بالإضافة إلى مظفر النواب وأنا، كنا نلتقي بشكل شبه أسبوعي في بيت صديقنا المهندس النفطي عبد الكريم الشماع الذي أصبح خبيراً عالمياً فيما بعد في مجال تخصصه، وهو صديق لنا جميعاً ولم يكن شاعراً أو أديباً، ولكن كان مهتماً ومولعاً بالأدب العربي وداعماً للشعراء مادياً ومعنوياً، وكان بيتهم كبيراً يسع للقائنا جميعاً، وكذلك كنا نجتمع إضافة إلى ذلك في مقهى الحاج صادق في مدينة الكاظمية، واستمرت لقاءاتنا لسنوات طويلة منذ عام 1952م إلى نهاية عقد الخمسينات، وفي هذا الملتقى الحداثي إذا صح التعبير كانت تحتدم النقاشات وتطرح الآراء العميقة والأفكار الحداثية وخصوصاً الأفكار التي كانت تنشرها مجلة “الأزمنة الحديثة” الفرنسية التي كان يصدرها جون بول سارتر، لحد تبلورت ملامح رؤية حداثية أسهمت في بناء تجربة خاصة لكل واحد منا اتكأت على تراث الشعراء الرواد الذين سبقونا بالحداثة، ولكن لم تقف عند حدود ما قدموه، بل أستطيع القول أن طابعاً خاصاً مشتركاً كان يجمعنا إضافة الطابع الخاص الذي يتميز به كل واحد منا.

• هل كنتم تجيدون اللغة الفرنسية في تلك الفترة؟
– لا.. لم نكن نجيد الفرنسية، فأنا كنت طالباً جامعياً في كلية القانون والسياسية في تلك الفترة قبل ذهابي إلى باريس لإكمال دراستي العليا، وكذلك لم يكن أحد من مجموعتنا التي ذكرتها يجيد اللغة الفرنسية، ولكن كنا نقرأ بنهم كلّ ما ينشره الكاتب نهاد التكرلي من ترجمات لكتابات جون بول سارتر والفكر الوجودي، لأنه كان متخصصاً بالأدب الفرنسي، وبالحقيقة أن الفضل يعود لنهاد في تعريف العالم العربي بالفكر الوجودي، وهو كان متأثراً بفلسفة جون بول سارتر ويكتب يكتب عنه وعن الفكر الوجودي كثيراً ونحن كأدباء شباب آنذاك أصبحنا تلاميذاً له بشكل غير مباشر ونعتبره مرجعاً لنا في الجانب الفكري والثقافي، وأنا شخصياً كانت تجمعني علاقة صداقة طيبة مع الأستاذ نهاد التكرلي وشقيقه الروائي الكبير فؤاد التكرلي.

• أين كنت تنشر قصائدك؟

لقد نشرت قصائدي أول الأمر في الصحف والمجلات العراقية المحلية مثل صحيفة “الرأي العام” ومجلة “الثقافة الجديدة” وغيرها، ولكن بعد ذلك وجدت أن مجلة “الآداب” البيروتية التي كان يرأس تحريرها الدكتور سهيل إدريس رحمه الله كانت رائجة في الوسط الثقافي العربي وذات توجه فكري وإبداعي يتوافق مع ما كنا عليه، فبدأت أراسل المجلة من باريس وبالفعل تم نشر بعضاً من قصائدي فيها، علماً إنني لم أكن ميالاً إلى النشر خصوصاً بعد إكمالي الدراسة العليا وتخصصي بعلم السياسة في كلية القانون والسياسة جامعة بغداد، ولكن بقي اهتمامي متواصلاً مع الحركة الثقافية والأدبية في الوطن العربي.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى