“اقتلها”..خرج الصوت مدويّاً، صارماً، أجشّاً، وكأنما وُلِـد من حنجرةٍ مزروعةٍ بالسيوف والخناجر، “اقتلها”، هزَّ رأسه بقوةٍ لعله يتخلص من بقايا صدى الصوت الذي حفر أخاديد وجعٍ لا سبيل للتخلص منها، “اقتلها.. لتتخلّـص من العار، ستكبر، وسيجدون تهمةً يسوقونها بسببها إلى الزنزانة، وهناك ستنجبُ لك حفيداً من سجّانك، سيُسَـلَّط السوط عليكَ من رحمها..اقتلها”.
خرج مسرعاً من البيت، جعل يزرع الأرصفة بؤساً بخطواته المتعبةِ المحملة بأسى المدينة الغافيةِ على ألفِ جرحٍ وجرح، وفيما هو يحثّ خطاه دون اتجاهٍ محدّد، سمع صوتاً أرقّ نبرةٍ مما سبقه، فيه من العطفِ، والشفقة ما يفوق احتمال كرامته المهددة بالطعن حتى وإن لم يكن هناك مكان متبقٍ لطعنةٍ أخرى:
“اقتلها، اقتلها وأرحها من هذه الحياة، ستشكرك لاحقاً عندما تلتقيك هناك، على الضفة الأخرى، اقتلها..وأرحها، وأرح نفسك من هذا العذاب”.
بسرعةٍ خاطفة غير اتجاهه، وأخذ يجري، لعله يستطيع خداع الأصوات التي تنبثق دون هوادة من رأسه، فتضيع في زحمة الأصوات الأخرى، وينجو بنفسه، يكاد يقسم أن تلك الأصوات قادته إلى حافة الجنون، إن لم يكن قد جن فعلاً، عبر الشارع إلى الرصيف الآخر حيث تبدو الشمس أكثر توهجاً، رفعت طفلةٌ صغيرةٌ عينيها، ونظرت مباشرة إلى عينيه، بل إلى أعماق روحه، وابتسمت، حار في أمر تلك الابتسامة، ما الذي يدعو إلى الابتسام؟ يا لسذاجة الأطفال.
أكمل سيره باتجاه المنزل، كان عليه أن يرتاح قليلاً، أن يأكل شيئاً ما، أن يفعل شيئاً ما ..رغم أنه لا يستطيعه، فتح باب البيت، اتجه إلى المطبخ، لا شيء يصلح للطعام إلا علبة الحليب، لن يستطيع أن يحرمها الحليب، فليس لديه ما يقدمه لها سواه.
شدَ بكفيه على معدته، وأخذ كأساً من الماء، شربه عن آخره، وألحقه بكأسٍ آخر، سيخدع معدته، سيملؤها ماءً، ولتطحن تلك اللعينة اللحوح الماء كما تشاء حتى الغد.
استلقى على سريره، “اقتلها”، قالت امرأة ذات صوتٍ آسر ، :”اقتلها، فغداً ستشعر بالعجز، وأنت تراها جائعة، ستجوع كثيراً، ثم ستأكل جسدها، وسيأكلك العار”.
أمسك بالمخدة ، وأطبقها على وجهه، شدّها بقوّة كأنما هو يحاول أن يخمد أنفاسه، في داخله رغبةٌ مرعبةٌ بالصراخ، ورغبة أكبر منها بالموت، تخونه شجاعته كلما فكر بقتل نفسه، وتخونه نفسه عندما يفكر بقتلها، قاومه النعاس طويلاً قبل أن يغط في نوم مضطرب متقطع بكوابيس مرعبة.
استفاق صباحاً، كانت الجريدة ملقاةً على المنضدة كالعادة، رأى صورته في الجريدة، وخبراً بالخط العريض الأسود يشير إلى أنه قتلها، خنقها بمخدةٍ حتى الموت، استبد به الرعب حتى أنه بدأ يرتجف، هل فعلها؟! هز رأسه محاولاً طرد تلك الفكرة من رأسه، لا.. لم يفعل..متأكدٌ أنّه لم يقتلها رغم أنّه فكر في ذلك مراراً، وربما كاد يفعل، هرول إلى غرفتها، كانت في سريرها نائمةً بِدعةٍ، لا تفكر بشيء، لكن ربما تحلم بأشياء كثيرة.
عاد إلى الجريدة، نعم هي صورته، هذا وجهه بكل تأكيد، لكنه لم يلبس مؤخراً بزّة عسكرية، كان آخر عهده بها عندما أنهى خدمته الإلزامية، أنهاها بكفٍّ ثقيلٍ نزلَ على وجههِ من قائد الكتيبة التي خدم بها، والذي أخبره لاحقاً أنّ هذه الصفعة لتهنئته بطريقة خاصة على نهاية خدمته، حدث ذلك رغم أنّه كان يفعل كلّ ما يُؤمر به، كان جندياً مطيعاً، لا..بل كان كلباً مطيعاً..حتى أنّه عوى عندما طلب منه الضابط ذلك بعد أن أيقظه ليلاً ليسليه، وهو يشربُ العرق..وتحتَ نوبةِ مزاجٍ ثمل، وسلطةٍ جائرة..جعله يعوي حتى الصباح، وهو يقهقه ويصرخ به : أعلى …أعلى…
الخبر في الجريدة كاذبٌ، الضابط لم يقتل ابنته، فقد تفقدها وكانت في سريرها نائمة، خرج الصوتُ الأجشّ من رأسه قائلاً:
“اقتلها الآن أيها البائس الجبان، فلو تركتها تكبر..سيغمد السجّان سيفه في جسدها، وسيقتلها، ويقتلك بطعنة واحدة، لمَ عليك أن تتركها تتعرض لكل هذا التعذيب؟ أنت لن تستطيع حمايتها، لو كنت تستطيع لحميت زوجتك”.
هرول خارج البيت، هاجمته قبيلةٌ من الأصوات الصدئة، كانت تصرخ في أذنيه: “اقتلها”، ركض بأسرع ما يستطيع، لكن الأصوات لاحقته، وفجأة رأى زوجته تبتسم في وجهه، ووجهها ملوث بالدم، ثم قالت له بصوتٍ حانِ: “لم لا تترك أمر الصغيرة لي..من أولى مني برعايتها؟!”.
شعر بالخجل من زوجته، لم يستطع النظر في عينيها، وعاد منظرها، وهي تساق بالقوة أمام عينيه بدعوى التحقيق معها، بعد أن مات أخوها في السجن، قتلته نظراتها.. آخر ما رآه منها، وهي على قيد الحياة، كانت تستغيثُ به، واستحالتْ بلاغة استغائة عينيها إلى سهامٍ من نار اخترقت قلبه، وجلده، أراد أن يفعل شيئاً، حاول أن يتحرك، لكن الضابط وجه فوّهة المسدس نحو رأسها، فتجمد في مكانه دون حراك، بينما كان صوتها يشقُّ أذنيه شقاً.
أيقظه بوق السيّارة -التي كادت تصطدم به – من عجاج أفكاره، ترنّح قليلاً، ثم استطاع أن يكمل سيره بينما كانت الشتائم تنهال عليه من سائقي السيارات التي عطلها مروره المفاجئ، ارتفعت الأصوات في رأسه بشكل جنوني، لكنه أخيراً عرف وجهة سيره، حددتها بوصلة الأصوات إياها، سارع خطاه نحوها بإصرارٍ لم يعرفه من قبل، وصل إلى مكانٍ ما، وجلس على الرصيف منتظراً، مرّ وقتٌ لم يحصه وهو ينتظر، حتى اقتربت سيارةٌ فارهة من بعيد، فقام بسرعة عن الرصيف، ودخل باب البناية الفاخر مترقباُ وصولها، توقفت السيارة، ونزل منها ثلاثة رجال، وما أن لاح الرجل الذي كان يقود السيارة، والذي كان يرتدي بزةً عسكريةً منشّاة ومكوية بشكل استعراضي محكم، حتى عاجله بطعنةٍ في شريان رقبته، طعنةٌ قاتلة لا يمكن لأحد أن يغيثه منها، ارتفعتْ أصواتٌ كثيرةٌ في المكان، وعمّت الفوضى في ثوانٍ، كان يلفظُ أنفاسَه الأخيرةَ جرّاء وابل الرصاص الذي اخترق جسده خارجاً من مسدس الحارس الشخصي، عندما نظر في عيني الضابط الذي كان يتخبط في دمه قائلاً: سترافقني إلى الجحيم..دون مسدس، ولا رتبة..