محاولة تزييف الوقائع
مضت أكثر من أربعة عقود على تاريخ الحرب الإيرانية العراقية، إلا أن الجدل بقي دائرا حول مسؤولية اندلاعها ومن بدأها، ومن أطلق شرارتها الأولى ومن يتحمل أوزارها. ورغم البيانات الجلية والوقائع الموثقة فإن هناك من يحمل العراق مسؤولية بدء الحرب لنوازع شتى، ناسيا أو متناسيا أن النزاع المسلح بين البلدين، كان في مقدماته ومآلاته تدبيرا مسبقا وتصميما قاطعا على إسقاط الدولة العراقية، طبقا لأولويات ولاية الفقيه وتنفيذا لاستراتيجيتها العقائدية (تصدير الثورة)، التي انتهجها العقل السياسي الإيراني وما يزال مستمرا عليها.
إذا لم تتوافر فرصة إسقاط النظام في بغداد من الداخل، يتعين في هذه الحالة العمل على إزاحته من الخارج! وهو ما أكده الخميني من منبر حسينية جماران في ندائه التعبوي، في الثامن والعشرين من يناير 1980، نداء تصدير الثورة “ليعلم الجميع أن ثورة الحادي عشر من فبراير معنية بتحرير الشعوب المغلوبة على أمرها، وأن جميع المذاهب تعرف أن مذهبنا هو مذهب الدم والسيف”. وجاءت الوثيقة الدستورية لتؤكد إصرار الجمهورية الدينية على أن المهمة العسكرية الإيرانية لا تقتصر فقط على حماية الحدود الإيرانية، بل إلى ما وراءها “إن جيش الجمهورية الإسلامية وقوات حرس الثورة لا يتحملان فقط مسؤولية حفظ وحراسة الحدود، وإنما يتكفلان أيضا بحمل رسالة عقائدية أي الجهاد في سبيل الله.. والنضال من أجل توسيع حاكمية قانون الله في أرجاء العالم”. ليصبح التدخل الإيراني بالشأن الوطني للدول العربية والإسلامية، بموجب المادة (12) من دستور الجمهورية الوليدة أمرا شرعيا.
محاولات تزييف الوقائع بشأن الحرب الإيرانية العراقية تتجدد، بين حين وآخر، بهدف انتزاع تعويضات عن تلك الحرب لصالح إيران
يرى الباحث في الشؤون الإيرانية عبدالستار الراوي الذي شغل منصب سفير العراق في طهران، قبل احتلال العراق، أن صفحة النزاع الإقليمي والدولي انطلقت من نظرية الثورة الدائمة، حاملة رسالة “ولاية الفقيه” أو “مدينة الله” التي تشمل الأمم كافة، وتخضع لسلطانها ذرات الكون.
هناك، الآن، من يحاول تزييف الوقائع بالادعاء أن جواب الخميني على تهنئة الرئيس العراقي أحمد حسن البكر للقيادة الإيرانية بالانتصار، كان وديا، وليس مثلما يُتداول بأنه ختمها بـ”والسَّلام على مَن أتبع الهدى”، في حين أن الخميني، بهذه العبارة، اعتبر الحرب بين “الإسلام والكفر”، أو “القرآن والإلحاد”، كما يقول الكاتب رشيد الخيون، إذ خاطب العِراقيين “لنتحد للقضاء على هذا النظام… وملاحقة أتباعهِ، وإعدام وتصفية مَن يأبى العودة إلى الإسلام. ونعمل معا على إقامة دولة إسلاميّة في العِراق، وفي كلِّ بقعة مِن بقاع الأُمة الإسلاميَّة” وقد نُفذ ذلك بعد عام 2003 بتصفيات فظيعة، واستمر تصدير الثورة قائلا “حربنا هذه حرب العقيدة، لا تعرف الجغرافيا والحدود، وفي حربنا هذه علينا أن نُكرس جهودنا للتعبئة الكبرى لجند الإسلام في العالم بأسره”.
ولو لم تضع الحرب الإيرانيّة العِراقية أوزارها يوم الثامن من أغسطس 1988، بقبول الخميني القرار 598، حسب الخيون نفسه، لانتهت بوفاته في الثالث من يونيو 1989، إذ كان مُصرا متعصبا لاستمرارها، مع محاولات العِراق لوقفها مبكرا، عام 1982، بعد استرجاع إيران أراضيها.
حرب الأحقاد، هكذا سماها الدكتور علي سبتي الحديثي وهو الباحث العريق بالشأن الإيراني، المزود بخبرة أكاديمية في القانون، والسفير المتميز، تشهد له تجربته الدبلوماسية العميقة، في كتابه “الحرب الإيرانية العراقية: 1980 – 1988 ضغوط التاريخ وأوهام القوة”، إذ تتبدى في هذه الحرب دوغماتية العقل السياسي الإيراني والعناد الأعمى، والقرار المسبق على تغذية النزعة العدوانية تجاه العراق، فأوصد الخميني كل الأبواب أمام المساعي الحميدة، ولعل خير شاهد على تعنته هو الدكتور موسى الموسوي، وفي هذا المقام يبقى كتابه “الثورة البائسة” واحدا من أهم الشهادات في هذا المجال، عدا مبادرات أخرى كانت تصب في الاتجاه نفسه، من بينها مبادرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وجهود حركة عدم الانحياز وغيرها..
لكن المصطلح الأكثر خطورة في كتاب الحديثي والذي ركز عليه بعد أن وقع فيه غالبية الباحثين، وهو مصطلح “الحرب العراقية/ الإيرانية” كمؤشر على أن صياغته على هذا النحو المتداول، يعني أن العراق هو البادئ بهذه الحرب، وعلى النقيض من ذلك فإن الوقائع الموثقة وتداعيات الأحداث كلها تؤكد على أن إيران كانت هي الساعية إليها، ولذلك ينبغي أن يعدل المصطلح إلى “الحرب الإيرانية العراقية”.
نداءات تحريضية
استنادا إلى شهادة الدكتور موسى الموسوي الذي كان يعمل مستشارا للخميني في تلك الحقبة، أن المرشد الأعلى عندما اطلع على رسالة الرئيس البكر علق بالقول “إن صدام خائف”!، لأن الشعب العراقي سيؤيده عندما سيدعوه إلى إسقاطه.. ولم يذكر البكر في تعليقه.
وكان الخميني يواصل، منذ الأيام الأولى للثورة الإيرانية، نداءاته التحريضية المتكررة بوجوب تصدير الثورة، وضرورة تحرير العتبات المقدسة من قبضة النظام الكافر في بغداد، مطالبا العراق بنقل رفات الإمام علي بن أبي طالب من النجف وإعادة دفنه في الأراضي الإيرانية.
ولتأكيد أن الحرب الإيرانية على العراق كانت حرب أحقاد، فعلا، أن الخميني كان يصرح بـ”أن الطريق نحو فلسطين يمر عبر كربلاء”! و”من بغداد”، فضلا عن الحملات الإعلامية ضد العراق، إذ كانت الإذاعة العربية الموجهة تحث العراقيين على القيام بالتمرد المسلح ضد الدولة وتدعو إلى إسقاط النظام، وتحرّض على قتل المسؤولين والبعثيين.
هذا كله إذا ضربنا صفحا عن الاختراقات الحدودية، التي بدأت في الرابع من أبريل 1980 حين احتلت القوات الإيرانية مناطق زين القوس وسيف سعد، وهي أراض عراقية منزوعة السلاح، اعترفت الحكومة الإيرانية أنها أراض عراقية بموجب اتفاقية الجزائر 1975، واستخدمت القوات الإيرانية المدفعية الثقيلة في قصف مناطق: مندلي وخانقين وزرباطية، وفي الثامن والعشرين من يوليو 1980 قصفت القوات الإيرانية بالمدفعية الثقيلة مخفر الشيب، ثم في الرابع من سبتمبر 1980 عادت لفتح نيرانها مجددا على المدن نفسها، مسببة خسائر في الأرواح والممتلكات. وفي الثامن عشر من سبتمبر 1980 بدأت القيادة المشتركة للجيش الإيراني والحرس الثوري وقوات التعبئة (الباسيج) بإصدار بيانات عسكرية عبر إذاعة طهران، وأصدرت ثمانية بيانات بين الثامن عشر والحادي والعشرين من سبتمبر 1980. تتحدث البيانات عن قيام القوات الإيرانية بأنشطة عسكرية ضد الأهداف العراقية. وفي البيان السابع في الحادي والعشرين من سبتمبر أعلنت القيادة الإيرانية النفير العام، تنفيذا لأمر رئيس الجمهورية الإيرانية والقائد العام للقوات المسلحة، كما اخترقت إيران، بنحو متكرر، الأراضي العراقية، وخطفت قواتها وقتلت المدنيين وفجرت المناطق الحدودية واغتالت أفراد الدوريات السيارة والراجلة.
بعد هذا كله، واضح أن محاولات تزييف الوقائع بشأن الحرب الإيرانية العراقية تتجدد، بين حين وآخر، بهدف انتزاع تعويضات عن تلك الحرب لصالح إيران، خصوصا وأن الدولة العراقية في أضعف حالاتها، الآن، وهذه المحاولات بدأت، بعد احتلال العراق سنة 2003، وقد عبر عنها صراحة أحد موالي إيران عبدالعزيز الحكيم عندما صرح أن العراق يتعين عليه دفع تعويضات لإيران عن تلك الحرب، وردد ذلك غير واحد من موالي ولاية الفقيه.
د. باهرة الشيخلي
كاتبة عراقية