مقالات

مِنْ وَحي الغُرْبَة

#الشبكة_مباشر_د.حاتم التكريتي

تكريت ياحبيبتي …أشعلتُ سيجارتي
وقضّيتُ ثواني وحدتي …أُبادل الليل آهاتي
ليلي طويل … وحُلمي مُستحيل
غُربتي تأكل الأيامَ والسنين
انا شاعرٌ لايعرف السكوت … ولايَخلدُ للسكون
يثور الشوق في صدري … ويثقلني وجع الحنين …

سَمَيتُكِ .. الحَبيبة … سَمَيتُكِ الصيف الذي تحملهُ أجنحة العصافير
ياضفدعُ.. يقرأ قصيدة الركودِ في البُحيرة
ياحمامة.. تقرأ أنشودة الضَجَر …ياموجة ماءٍ لاطمتْ صخور الشواطئ
وقفَتُ على تلالِكِ المحدَودَبة … أستجدي الذكريات …أستجدي الثواني الغابرات…
على جُرفكِ الطيني …وَدَدْتُ لو أشقُّ الرملَ، والتَحِفُ دِفء شواطيكِ …
نسيتُ من أنا.. نسيتُ المَشيب.. نسيتُ السنين
تكريت! وهذي الدار كانت مَرتعًا… وجيش الذكريات في قلبي تَجَحفل
تلك البوادي حيةٌ ٌ… وفيها أصوات وألحان لِمَنْ ينصت
تلك التلال تملأ قلبي … بصوت أغانيها
ويريد قلبي أن يغني معها … يريد قلبي أن يَخفق كما أجنحة الطيور
يريد قلبي أن يَضحك … كما جداول المياه عندما تضرب الحصى والصخور
كما تلاطم المياه جروفك الطينية … لتحفر على وجهها أشكالٍ ونياسم
أنها تناديني، وتومئ إليَّ كُلَّ لحظة … تناديني !! عندما يكون قلبي وحيدًا
لكنني بعيد مع صوت أنغامكِ الأبدية
يَرنُّ في أُذُنَي … كُلَّ لحظة … يوقظ الحكايا والذكريات
فكيف يُمكنني الإمساك بغَيمَة … أو بموجة فوق مياه مُنسابة
كيفَ يُمكِن الإمساك بضوء القمر … أو بأيامٍ ربيعية
إنها تناديني وتومئ إليّ …عندما يكون قلبي وحيدًا … تناديني !! هيا … هيا … تعالَ وقَبِلَ وَجْنتَيَّ
“بعض الأبيات مُقتبسة من الفيلم المعروف ( صوت الموسيقى) ”

الصيباط من أغصان شجيرة السوس على الشاطئ الحصوي أقامهُ السيد وسام أحد أبناء المدينة القديمة الذي توارث هذا الشغف والعشق لشواطئ تكريت الخلّابة عن آبائهِ وأجدادهِ ، في هذا المكان للترويح عن النفس والابتعاد عن صخب المدينة
اكتنزَتْ مَدينة تكريت القديمة تُراثًا غَنيًّا وجميلًا، تَراكَمَ خَلفَسورها التاريخي وجُدران منازلها وبين أزقتها، وفي نفوسأبنائِها ووجدانهم، عبرَآلاف السنين، وهو يَطوي بين صفحاتهِ منابع البناء النفسي والشخصي والأخلاقي لِأهل المدينة، بما يَنسَجِمُ وطبيعة العيش فيها، والتفاعل بشكل بنّاء ومَقبول داخل المُجتمع ، ونُضحِ عقول الأهالي بما فعلواْ من تدابير وحلول لِمُختلف أمور الحياة؛ حَسَنها وسيّئها ، جميلها وقبيحها، خيرها وشرها،في إقامة أفراحهم العائلية واستقبال الأعياد المُختلفة في الأماكن التقليدية لإقامتها كلَّ عام، ونوع الفعاليات التي تُقام في أيام تلك الأعياد ويَعيشها سكان المَدينة رجالًا ونساءً .
أنواع الأكلات الشائعة والمُتعارف عليها في مَطبخ المدينة وطريقة إعدادها، والوسائل المُستخدمة في العمل، وشكل الملابس والزَيّ الشعبي المُطرّز بالشغل اليدوي، والأنسجة اليدويةمن الأفرشة والأغطية ونقوشها المُميزة، وطرق تحضير موادها الأولية وعُددها اليدوية ، وإقامة مُتطلبات الأتراح وواجباتها وأُصولها، ومواجهة الأخطار التي قد تَحُفُّ بالمدينة من خارجها ، وما يُصادِف سكّانها من مشكلات بيئية واجتماعية، وطرق ومَراهم شعبية علاجية لبعض الأمراض والإصابات المألوفة،وأمراض تصل إلى حد الأوبِئة سريعة العدوى،ومُتطلبات العيش داخل المنزل وتأمين المؤونة الشتوية، وتخزينها لتوفير القوت اليومي لِأفراد العائلة.
ذلك التُراث الذي يَبدأ بلَهْجَتِها الكلامية المُمَيَّزة التي تنتمي إلى اللهجات الشامية، ويَتَمَسّكُ بها مُجتمع المدينةداخلها وخارجها، ويتعلّمها الأبناء منذ بداية نُطقِهِم بالأحرف الأولى كَتمَسّكهِ بالتقاليد والأعراف والعادات المُتبعة في مُجتمَعِها، مروراً بالمِهَن والحِرَف البدائية التي تؤمِّن للناس مُتطلبات عَيشِهِم واحتياجاتِهِم المُختلفة في أعمال البناءوالحدادة والنجارة والدباغة والسراجة والحياكة والخياطة والتطبيب العشبي والنقل ورعاية الحيوانات الأليفة والداجنة وزراعة الخضرعلى شواطئ النهر . كل ذلك وغيرهِ شكل الهيكل التراثي المتين المتأصل في جذور أهل المدينة القديمة يتوارثونه جيلًا بعدَ جيل، فأصبحتْ هذه المدينة مايشبه بوتقة كبيرة يذوب فيها، ويمتزج بتجانس في مَحلولها، كل من يأوي للإقامة فيها،أو النزوح إليها من أطرافها القريبة،أومن مُدن العِراق المُختلفة .
تكريت المدينة ذات التركيبة الاجتماعية العائلية والبيوتات المعروفة بعوائلها العربية الأصيلة هي، بالوقت ذاته، المدينة التي تستقبل ولا ترفض من يَقصدها للعيش والإقامة والاستقرار،فترى مَنْ نَزَحَإليها قد امتزَجَواندَمَج في مُجتَمَعِها، بعد مدة وجيزة، وبدأ وأفراد عائلتهِ يَتكَلَّمون لَهجَتها المُميَّزة،ويَتعَلّم عاداتها وتقاليدها ويَتصاهر بعلاقات الزواج مع عوائلها،فيتمسك بها وبأصولها أكثر من تَمَسُكِهِ بأصلهِ الذي غادرهُ، وفَضَّلَ العيش فيها، ومع الوقت يقول بكلِّ فَخرٍ أنا من مدينة تكريت، ويَشعُر بالانتماء الحقيقي إليها،مَدعّمابحُبِّ المدينة وبيئتها وعاداتها وتقاليدها وأهلها وكلِّ ما يُميّزها ويَفْخَر بهِ أبناؤها .
ومن بينِأولئك الوافدين إليها من أصولٍ غير عَربية ؛كردية أو أرمنية وجورجية، وقد يكون بعضُهُم من أصول إيرانية وتُركية،وجدوا فيهاكثيرًا مِمّا هو طيِّبٌ وإنساني وأخلاقي وكريم وأصيل في كنفِ ذلك المُجتمع وبين أفراد عوائلهِ الكريمة، بَل إن الغالبية مِنهُم اتّخَذ اسم المدينة لقبا شخصيًا وعائليًّا، بدلًا من لقبهِ الأصل، تعبيرًا عن مَحَبتهِ لها،وانتمائهِإليها .
مِثلَمَا يَذكُر جيل تلك السنين عن رَجُل وامرأة من أصول تُركية، سَكنا في أحدِ الأحياء السكنية القديمة في المدينة إبَّان الحُكم العثماني، وكان الرَجُل بوظيفة عسكري، فَرَضَتْ عَليهِ ظروف الخدمة أنْ يَلتَحِقَ بالجيش التركي المُنسَحِب إلى بلادهِ في أواخِرِ سنوات الحَرب العالمية الأولى،وتَرَكَ الزوجة ” مَلْكَة خانُم ” وحيدةً في منزلهم مع عدد من كلابٍ، كانت تسِاكنُها في المنزل .
حَظيت المرأة الوحيدة برعاية الجيران وعنايتهم وخدمتهم، بعد أن غادرها رَبُّ البيت،وبقيت على هذه الحال، حتى وضَعَت الحربُ أوزارها، فأرسل إليها الزوج رسالة يُخبرها، فيها، أنهُ على قيد الحياة ويدعوها للعودة إلى وطنهما، لكنَّ الخانُم رَفَضَتْ، ودَعَتْهُ للعودة إلى تكريت ومنزلهما، لكي يَقضّيا بقية سنين حياتهماوسط ذلك المُجتمَع الطيِّب، لكنَّ الزوج لمْ يَستَجِبْ، واختار البقاء في وطنهِ،وبقيَت الزوجة تَعيشُ وحيدة، حتى وافاها الأجل في إحدى الليالي .
عَلِمَ الجيران بِوفاتِها في تلك الليلة، بعدَ سماعهِم أصوات الكلاب التي بدأت تَبكي سَيدَتَها بأصوات حَزينةٍ، بعدَ أنْ قامَتْ بِسَحبِ جَسَدِها من (حوش) المنزل، حيثُ كانت مُمَدَّدَة على فراشِها أيام الصيف، إلى داخل الغُرفة،تَجَمَّعَ الجيران في تلك الليلة لتجهيز جَثمان المتوفّاة، وفي الصباح الباكر تجري مراسم الدفن ويُشَيَّعُ جُثمانُها، من الأهالي الذينأكرَموامَثواها الأخير فيمقبرة المدينة التي أحبتها وأحبت أهلها، وأصبحت قصَتُها شاهدًا على طيبة ذلك المُجتمع، وتَمَسّكِهِ بالقيم الانسانية النبيلة .
عائلةٌ أُخرى من أصول زيدية وفدت على تكريت من مدينة الحلة، تكوَّنتْ من الأب الموظف الذي انتقل للعمل في إحدى الدوائر الحكومية في مدينة تكريت، والأم وخمسة من الأبناء اليافعين،فبعد أنْمَكثتْ فيها عددا من السنين ، مَرِضَ الأب وتوفّاهُ الله تعالى قبل بلوغهِ سن التقاعد،وكان الأبناء مايزالون يدرسون في المدرسة، لذلك أشارعليهم الطيبون من أبناء المدينة بالبقاء في المدينة وعدم العودة إلى مدينتهم (الحلة)، وبادرَ مالك المنزل (وحَيِّد المصلاوي) بتخفيض أجر سَكنهِم .
بَقيت تلك العائلة وسط ذلك المُجتمع الطيَّب،وتَحَمَّلَت الأم الصبورة شؤون العيش وتعليم الأبناء،مما كانتتحصل عليه من رزقٍ يومي في مهنة الخياطة، وكان باعة الأقمشة في سوق المدينة يرسلون إلى منزل تلك العائلة الناس الوافدة من الريف والبَرّ الغربي،وهم بحاجة إلى خياطة ألبسَتِهِم، إضافة إلى من يحتاج من أبناء المدينة. كافحت تلك المرأة بصبرٍ وتفانٍ، وأصبحتْ وأبناؤها عائلة تكريتية بامتياز، وتخرج الأبناء في المدارس، ونالوا الوظائف الحكومية الرفيعة بعد عدد من السنين، وبقيت الأم ولم تغادر المدينة الطيبة حتى وافاها الأجل، ويوارى جسدها الطاهر في مَقبرتها، وبقيَ الأبناء أوفياء مُخلصين لمدينتهم،حَيثُ عاشواوكبروا، وتعلّموا، واشتدت سواعدهُم ، وهميقولون: نَحنُ من مدينة تكريت .
وعائلةٌ أخرى وفَدَتْ من محافظة الديوانية بحكمِ وظيفة رَبِّ العائلة (كاتب)،إذانتقل للعمل في إحدى الدوائر الحكومية في تكريت في سنين مُبكرة من عقد الستينات . عُرِفَتْ، وماتزال تلك العائلة الطيّبة،بـ(بيت صُبحي الكاتب)، فقدمَكَثَ مع عائلتهِ بَينَ أفراد مُجتمع المدينة، حَيثُ وجدوا البيئة الرّحبَة والمُجتمَع المُتقبّل، الذي يفتح ذراعيهِ على سعتيهما مُرحبًا بالضيوف، ولم يغادروها حتى أُحيل الأبُ على التقاعد،وطلب، في وصيتهِ،أنْ يُدفَن في مقبرة المدينة بعد وفاتهِ .أما الأبناء فقد تعايشوا وانصهروا بين أبناء جيلهم في المحلة والمدرسة، ونالوا الوظائف وتصاهروا مع أهلها بعلاقات الزواج،ومايزال قسمٌ منهُم يَعيش في هذه المدينة الفاضلة .
وعائلة الطبيب المَعروففيها الدكتور علي حسين نصيف خلف الزبيدي التي تعود أصولها إلى مُحافظة ديالى ، وفد الطبيب علي على المدينة مع عائلتهِ بحكم الوظيفة في عام1990م، ولم يكن في نيته البقاء والاستقرار فيها، بعد أن تنتهي مدّة الخدمة المقررة لهُ في تكريت، لكن الطبيب المُتفاني ما أن بدأ العمل وتعرف أبناء المدينة من أهلها الطيبين، وبدأ أبناؤه يرتادون المدارس،وهو، في الوقت ذاته، يقابل الحسن بالحسن والطيب بالطيب، ويقدم خدماتهِ الطبية الجليلة لأبنائها بكل إخلاص وتفانٍ، حتى أحبّهُ الأهالي،فأحبّ المدينة، وأحبَّ أهلها، ووجد فيها وأفراد عائلتهِ خير مُستقر .
دَرَسَ الأبناء في مدارسها، وتخرّجوا فيها، ولَمْ يُغادر الزبيديّ المدينة، فأنشأ منزلًا، وأصبَحَ واحدًا من أبنائِها الفاعلين، مُندمجًا في مُجتمعِها، مُحبًّا لبيئتها، وقد اختارها مُستقرًّا أبديا له، ولِأفراد عائلتهِ .
بيئَتُها الخلّابة: تلك البيئة التي وَسَمَتْأبناءها، وبَصَمَتْ في وجدانهِم ونفوسِهِمأسرارها المُختبِئة بينَ الأزقة، و بينَ طيات أرضِها وشواطئ نهرِها،وفي دواوين عوائلها الكريمة فمنحتهُم حُبَّ الأصالة والتقاليد والتمسّك بقيَم الخلق العربي ، وقصَص وحكايات الآباء والأجداد في مجالسهم،فمَنَحَتهُم الأمثلة والفصاحة وحُبّ المُجالَسةوحُبَّ المُزحَة والفُكاهَة،وفي صَوتِ(المُطبِق) ودَبكَة الرِجال على نَغَماتهِ رقصة شعبية،وفي أبيات العتابة والغناء البدوي والريفي على أنغام الرَّباب،وألوان الغناء في تراثها الشعبي، تؤدّيهِ البنات في مناسبات الأفراح،فَـتمنَحَهُنّ حُبَّالموسيقى، وتَذَوّق كلّ ما هو راقٍ فيها،وفي بساط رَبيعِها الأخضَرفي بَرِّها الغربي،وعلى قِمَم وسفوح هضابها وطيّات الوديان، وعلى بساط كلِّ جَزْرَةٍ، والأجواء يَمْلَؤُها هَديل اليَمامِ، وأناشيد العَصافير على أغصانِ أشجارِها،وفي كُلِّ خُضْرَة زرَعوها على شواطئِها، وفي كل ليلة مُقمِّرة يتلألأ نورها فوق أمواج دَجلة، فـتمنحهُم حُبّ الطبيعة ورومانسيّتها وصدق المشاعر وصفاء النيّات، وتَحتَ كُلِّ شَمسٍ لاهِبَة في أيام صَيفِها القائِظ،أو في كُلّ قَرْصَةِبردٍ في شِتائِها، وكلِّ زَخَّةِ مَطَر،وكلِّ ليلة ظلامُها حالك فتمنحهُم الخشونة والقُدرة على تَحَمُّل الظروف القاسية والصَعبَة ومقاومتها، وتنزع الخوف من نفوسهم لِتزرع فيهم الشجاعة والإقدام وحُبَّ المُجازَفة وحُبّ التَشبّثوالمُحاولة للوثوب والوصول والعطاء، وفي كُلِّ لُعبَةٍ مارسوها في مَلعَب المَحَلَة، فتمنحهُم روح المُنافسة والعَمَل لِتَحقيق الفوز والتَمَيُّز، وكلُّ مِهنَةٍ وحِرفة زاولوها للعيش الكريم فتمنَحَهُم الصبر والإيمان، وحُبَّ الكَسبِ الحَلال،والشهامَة، وإكرام الضَيف وحُبّ مُساعدة المَظلوم والانتصار لهُ … انعَجَنَتْ في دِمائِهِم، وتظهر جليةً في مزاياهِم الشخصيةوطبيعة تعاملهم وعلاقاتهم بأبناء مُجتمعاتٍ أخرى، عندما يُغادرون المدينة خارجًا، لذلك فإن شخصية ابن هذه المدينة ” تَسْتَنطِقُ ” بخصالِها سِمَة المكان ومزاياه وألوانه ومعانيه، ..عنوانه الأشمل ” الحُبْ والتسامح “.
قلَّما يَجد ابن المدينة مثل ذلك التنوّع البيئي والمُجتَمَعي والتراثي المُتكامل، والمُطرّز بِكُلِّ الألوان لدى أبناء آخرين من بقية المُدن العراقية قد يَلتقي بهِم، ويَتعرَّفهم في مَسيرة حياتهِ،ويَبْقى ابن تكريت مشدودًا بحبهِ لها وحنينهِ إلى ربوعِها وتَعلُقهِ الفطري ببيئتها مُنجذبًاإليها،أينما حَلَّ وارتَحَلَ، ومَهما بَلغَ بهِ العُمر في الكِبَر، ومَهْما بَلَغَت بهِ الدُنيا من مَناصِبَ ومَراتبَ وعَـناوين.
يَشتاقُ التكريتيّ إلى ذكريات طفولتهِ في مَحلاتِ مدينته،وصباه في ربوعِها ودراستهِ في مدارسها، وإلى أبناء جيلهِ ممن تآلفَ مَعهُم في تلك السنين، وأمضى معهم أجمل أيام طفولَتهِ وصِباه، يَعودُإليها بينَمدّة وأخرى مع عائلتهِ وأبنائهِ،وكأنّهُ يزرع في نفوس أبنائهِ ويورثهُم مَحبته وأسرار البيئة التي شربها وتربّى عليها، لايجدون مثلها في بيئة العاصمة أو مدينة أخرى.يعود إليها يستجدي الذكريات ويعيد للنفس بعضًاممّا يُرضيها، ويُهَدّئ لوعة الشوق والحنين الى أيام زمنها الجميل .
كان كثيرٌ، من الموظفين والعَسكريين الذين عملوا في مُدن العراق الأخرى،يُبْقونَ منازلهم في مدينة تكريت مُقفلة وخالية،أو تُستأجر في الشتاء فقط لكي يتمكنوا من العَودة بعوائلهم إلى المدينة في أشهرالعطلة الصيفية، يقضونها بينَأهلِها وربوعِها. وكثيرٌ من أبنائها ممّن تقدمتْ بهم سنين العُمر واقتربوا من آجالهم، وهم يقيمون في مُدنٍأخرى،أو في دول أخرى خارج العراق، تركوا الوصايا لكي تُنْقلَ نعوشهم إلى مدينتهم تكريت،ليُدفنوا في تربتها،إلى جانب أهليهم وذويهم،بَعدَ مُفارقتهِم هذهِ الدنيا . الأحاسيس والمشاعرعينها أدركها كثير من أبنائِها،ينتابهُم الاحساس بالغربة، أينما حلّوا ونزلوا، وكيفما عاشوا، وترفّهواوكأنّها ربطتهُم بحبالٍ متينة إلى رواسيها الثابتة في تلك الأرض الطيّبة،تهزّها وتشدّها بين الحين والآخر، لتجذبهم بقوة إليها .هذه المدينة الصغيرة، بحجمها وعدد نفوسها التي لم تزد على بضعة آلاف نسمة (في العقود الأولى من القرن العشرين )،وعلى مدّ تاريخهاالعريق كانت مصدر إلهام لِأُدَبَائِها وشعرائِها ورجال العلم والمَعرفة من الأطباء والمهندسين والفنانين والأساتذة والفلاسفة والمُعلمين ورجال الدين وضباط الجيش.
تكريت البيئة والمَوقع والطبيعة الخلّابة والنهر الوديع ، تكريت الهدوء والسكينة ، المَحبّة والسلام ، سِعَة الفضاء وزُرقة السماء وطيب الهواء، تكريت البوادي والبطاح، ربيعها أخضر، وشتاؤها قارس ، صيفها ساخن، وخريفها أشجان، من كلّ هذا أرضعتْني، فَغَدَتْ هويتي،واسمُها أحرف كُنيَتي .

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى