مقالات

رواية الذاكرة /4 النهر .. والبستان

#الشبكة_مباشر_بغداد_د.كاظم المقدادي

مثلما فعل بي كتاب جبران خليل جبران ( الجائزة) التي قدمها لي الاستاذ موحان .. معلم اللغة العربية في مدرسة المسعودي الابتدائية في الكرخ .. فعلت الكاميرا الاوكرانية ( كيف ) فعلتها لكي تمنحني .. بطاقة مرور الى بلاط صاحبة الجلالة .
كان صديق صباي .. في محلة العطيفية الاولى ناهض عبد الوهاب الدباس .. هو الذي مهد لي طريق فن التصوير / هواية وفنا ، فطنة وجمالا .. لامتلاكه ارقى الكاميرات اليابانية ( كانون ) ومعرفته باسرار التحميض والتكبير .. وكانت والدته الانسانة الفاضلة المرحومة منيرة المدلل .. كثيرا ما تشجعنا بتوفير اجواء من المنافسة الودية .. وكأننا داخل صف من المدرسة التي كانت تديرها انذاك .

كانت محلة العطيفية الاولى .. محلة جديدة وناشئة ، هادئة وعذبة .. انتقل اهلها من مناطق الكرخ القديمة والقريبة .. كانت صغيرة بمساحتها ، كبيرة باهلها وبيئتها الحالمة ..كل مافيها من مشاهد ، يوحي برغد الحياة وجمالها ، مثل اي مصيف مترع بالجمال والهدوء .. منطقة احتضنها نهر دجلة بحب و رقة ، واحيطت ببهاء بساتين الاخوين المرحومين ( مهدي وطعمة ) .
كدت اغرق اكثر من مرة في نهر دجلة.. الى ان جاءنا مدرب للسباحة .. وهو السيد ياسين الصدر .. حاملا مجموعة من ( كرب النخيل ) ..متبرعا بتعليم اولاد العطيفية فن السباحة واصولها .. فابتعد عنا الخوف وشبح الغرق والموت برهة من الزمن .. لكن هذا الاطمئنان لم يدم طويلا .. بعد ان حلت علينا الفاجعة ، بغرق صديق عزيز علينا ، وجار لنا .. هو المرحوم فاضل عنكز ، الذي غرق ليلا ، محشورا تحت (دوبة) كبيرة كانت راسية بالقرب من المكان الذي كان يسبح فيه .. وعندما تمت عملية انتشال جثته صباح اليوم التالي .. كانت العطيفية باسرها تبكيه حزنا والما .
وفي مثل هذه الاحزان والشدائد ، وحوادث الغرق .. نترك عادة النهر واهواله .. ونستأنس ببساتين العطيفية وجمالها واجوائها .
كثيرا ما كنت اجد نفسي ..اسرح وامرح وسط هذه البساتين الخضراء .. حاملا مصيدتي الصغيرة لاصطاد الطيور والعصافير ..او مصوبا كامرتي لتصوير المناظر الجميلة .

ذات مرة انتبهت الى وجود ( نخلة برأسين ) فقمت بتصويرها .. وكتبت تعليقا خلف الصورة ( الاخوة العربية الكوردية ) تاركا اثرا وفرحا .. على وجه صديقي سيروان ..الذي شجعني بعد ثلاثة ايام ، لامضي راكبا دراجتي الهوائية ، مجتازا جسر الصرافية .. متوجها نحو جريدة( التآخي ) في منطقة العيواضية .
وبعد ايام معدودة .. ارى الصورة منشورة مع التعليق على الصفحة الاخيرة من الجريدة .. كان يوم نشر صورة النخلة برأسين .. يوما عظيما في حياتي .. كنت احمل الجريدة ، وانا اطوف ازقة العطيفية ، منتشيا ، جذلا ، متباهيا بهذا الانجاز الصحفي الصغير .
لم افكر يوما بالسفر الى خارج العراق .. ولاحتى خارج بغداد .. لكن وجود الكاميرا بيدي ، كانت بمثابة بطاقة سفر .. وهكذا سافرت بعيدا نحو مدينة البصرة.. وكانت المفارقة ان اقف وراء رسام لا اعرفه لالتقط له صورة .. كان منهمكا برسم سفينة راسية على ساحل شط العرب عام ١٩٦٨ .. بعدها عدت الى بغداد وجاء الموعد الذي اقدم به مجموعة من صوري الفنية الى مجلة ( الشباب ) وكان المصور سامي النصراوي يشرف ويختار وينشر ما يشاء ، لتنمية مواهب الشباب .. لكن المفاجأة الاكبر ، حين تسارعت خطاي هذه المرة نحو مجلة ( الف باء ) .. وكان المصور جاسم الزبيدي مهتما بنشر الصور الفنية .. دخلت عليه من غير موعد ، وكان من حوله مجموعة من المحررين والرسامين .. بينهم الفنان صلاح جياد ..الذي لمح صورته بسرعة .. وهي ذات الصورة التي التقطتها في البصرة من خلفه .. وكان لا يعرفني ، وانا لا اعرفه.. مات صلاح جياد منذ اكثر من عام في باريس ، وغاب عن حي الرسامين في مونتمارت.. وترك صديقه الرسام الكبير فيصل لعيبي في لندن .. مثقلا باحزان الفراق .
لا اتذكر من تاريخ الصورة في العراق .. سوى تلك التي تلتقط لنا ، ونحن نجلس على ( تنكة) فارغة لدهن الراعي .. لنراقب المصور وهو يخفي راسه داخل خرطوم من القماشة السوداء ..كانت مثل هذه الصور تكون صالحة لمعاملات الطابو ، وشهادة الجنسية والاحوال المدنية ، والتسجيل في المدارس .. ثم ظهر المصور الجوال الذي يلتقط لنا الصور .. ويعود علينا في الاسبوع التالي لنحصل على صورنا بالاسود والابيض .. الى ان ظهرت مجموعة من المصورين البارعين في شارع الرشيد وشارع السعدون.. ارشاك ، وحازم باك وحافظ القباني .. واستوديو بابل / مصور الملوك والرؤوساء .
لم يكن وصول التلفزيون ..الذي اطلق عليه ( العين الكونية ) سهلا ، لولا وجود اداة التصوير التي فتحت له الطريق ثباتا ومكانة ومستقبلا .. كانت فكرة ( الغرفة المعتمة ) في فرنسا ثم في بريطانيا اداة فنية تغلغلت لقرون خلت .. وكان المجرب الفرنسي جوزيف نيبس ، اول من اجرى ما سماه ( هيليوغرافيا ) اي صورة الحياة .. اما شريكه الاصغر لويس داغير فهو اول من طور صورة فوتغرافية دقيقة ، في منتصف القرن التاسع عشر .. وفي مثل هذا التاريخ كان اكثر من عشرة الاف مصور يمارسون فن التصوير في امريكا الشمالية يتقدمهم مخترع التصوير والكهرباء اديسون .

لم تكن غواية التصوير ، مقتصرة على العلماء والمخترعين في اوربا وامريكا ، بل وصلت الى الملكة فكتوريا ، والامير البرت ، بشرائهما اول جهاز للتصوير .. لكن الحدث الابرز في تاريخ التصوير اختراع ( الصورة المتحركة ) وبروز ظاهرة التصوير الشعبي على يد المصرفي الامريكي جورج ابستمان ، الذي تحول بسرعة من البورصة ، الى صانع لآلات التصوير ، بعد نجاحه باختراع آلة ( كوداك ) الشهيرة .. رخيصة الثمن ، وسهلة الاستخدام .. كان الشعار الذي اتخذه إبستمان في اعلاناته عن كوداك ( اضغط على الزر .. ونحن نقوم بالباقي ) وهكذا نجح في فكرته لجعل كوداك .. على لسان الجميع وفي مختلف لغات العالم .
وفي طوكيو .. حاول اليابانيون صناعة آلات تصوير دقيقة ، تظاهي دقة الساعات السويسرية .. لكن كاميراتهم هذه لم تظل صامتة .. وهي تسجل اخطر الحوادث التي تجري حول الكرة الارضية .. وابشع الجرائم والمجاعات في مدن العالم الثالث .. وهذا ماسجلته عدسة المصور الامريكي كارتر .. الذي صور لحظة انقضاض نسر جارح على طفل اتعبته المجاعة من اللحاق بامه .. كانت التقاطته البشعة هذه ، وصمة عار في جبين الانسانية .. لقد ربح الشهرة والمال .. لكنه عاش منزويا ومنهارا .. فقرر الانتحار ، ولم تعد عدسته تسجل تلك الافكار ..&
د/ كاظم المقدادي ..

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى