ابو الجود
…………….
أينما تجولت بسيارتي في شوارع الحي المترامي الأطراف الذي يستحيل أن أقطعه راجلة، يطالعني وجهه الكالح بابتسامته البلهاء وعينيه اللتين تنمان نظراتهما عن رحمة وطيبة لا متناهية، وكلما مررت بجواره وأنا أتجول بين المحلات متبضعة، يحني قامته إحتراما لي ويضع يده على رأسه وتتغير معالم بلاهته حتى يصبح رجلا آخر غير أبو الجود ذلك المعتوه الذي يطارده الأطفال بالحجارة لأنه يتجاهلهم ويتجاهل نداءاتهم.
لا أعلم لم يعاملني بهذه الطريقة من بين جميع الناس الذين يمرون به ويمر بهم كل الوقت، حتى أنني لم أمد له يدي بشيء من المال يوما ما، لأنني لم أظن يوما بأنه متسول رغم أنه يمد يده أحيانا للآخرين ويطلب منهم بعض المال، لكن هندامه ونظافته وسلوكه لا يوحي للناظر على أنه متسول وبلا رعاية، أحيانا يرفض أن يأخذ شيئا من بعض الصبية حتى وإن أغدقوا عليه بالمال والعطايا، أراه يهرب منهم مسرعا لا أعلم السبب لكنني في يوم ما كنت أتطلع اليه وأنا ألوذ من البرد في سيارتي، فلاح لي من بعيد بعض الصبية ينادونه “حجي حجي أبو الجود تعال خذ هذه الفلوس إنها لك” فرأيته يتجاهلهم ويسرع الخطى نحو أحد الأزقة القريبة، فهرع أحد الصبية بالركض خلفه ليعطيه المال لكنه لم يستطع اللحاق به ونادى عليه صاحبه “اتركه خلي يولي” ثم انهالوا عليه بالحجارة فقفزت الى ذهني طريقته بالتعامل معي وأنا لم أعطه شيئا يوما فعلمت أنه يستطيع أن يستقرأ ويستشعر ما في دواخل ونفوس الآخرين ويستطيع أن ينتقي من يتودد اليه ممن يهرب منه مسرعا، لعلها فراسة أو كأنه تراكم خبرة مما إكتسبه خلال سنواته الطويلة وهو يجول في شوارع مدينتنا.
لاتكاد تخلو مشاويري في كل مرة من رؤيته أمامي ماثلا كأنه يذكرني بشيء ما أو يرمز لشيء علي إكتشافه، تبرعمت في داخلي فكرة وأنا أقترب منه ذات يوم بأن أمد يدي وأساعده ببعض المال، وما أن رآني وكعادته إنحنى وتغيرت هيئته، ووضع يده على رأسه بكل إحترام، فقدمت له بعض المال فنظر الي بطريقة لم أستطع أن أفهمها أبدا لغاية هذه اللحظة، كانت نظرته توحي لي بأنه يريد مني شيئا آخر غير المال، وتركني ورحل وهو يدمع، لأول مرة أراه من دون بسمته البلهاء، وذهب مسرعا بوجهه الباكي بعيدا عني.
لم أستطع أن أتسوق في ذلك اليوم كان بالي مشغولا بتلك اللحظة التي وقعت عيني على عينيه الدامعتين وهو يغادرني والخيبة تكلل محياه، فعزمت على أن أعرف كل شيء عن هذا الرجل الغامض،
وكأن ماحدث بيني وبينه محط رصد أحد الباعة الذين كانوا يراقبون ماحدث.
داهمني احدهم بالقول :
-هل تعرفينه؟
*لا ابدا …
-ربما هو يعرفك .. ماذا تعملين؟
*أنا كاتبة وصحفية
-هل تعلمين أن أبو الجود كان ضابطا مرموقا في الأمن العامة في زمن النظام السابق ؟
*ماذا تقول؟
هل تعرفه أو تعرف عنه أكثر؟
-مسكين دفع حياته ثمن رحمته
*كيف ؟ هل تعرف المزيد؟
-كان مسؤولا في إحدى الأقسام المسؤولة عن التعذيب في إحدى معتقلات الدوائر الأمنية،
كان رفيقا بمن يقع بين يديه ، كثير الرحمة بهؤلاء المساكين الذين يجبر على مشاهدتهم وهم يعذبون في هذه السجون من نساء وأطفال وشيوخ وكذلك الرجال والشباب فهم لايقلون تألما عن غيرهم، هو ينظر اليهم كلهم بعيون أبوية رحيمة.
طريقته بالتعاون والرأفة معهم جعلته يواجه مشاكل كثيرة فقدم للمحاكمات وتعرض للعقوبات مرات عديدة حتى بات إسمه لافتا أنظار كل واش وحاقد ليكيل إليه الضربات في كل مرة يرفض فيها تعذيب معتقل ما،
حتى آخر مرة تعرض فيها للألم بما لاتحتمله رحمته، حين كانت نوبة خفارته وجيء بامراة حبلى تكاد تلد وتعرضت أمامه لشتى أنواع القسوة في التعامل، لم يكن هنالك أحد غيره ليلتها وولدت المرأة بمساعدته بعد تعذيبها بقسوة من قبل رجال الأمن الذين كلفوه بمهمة خارج المعتقل وحين عودته صدم بهذا المنظر المريع ووضع المراة المتأزم، لم يكن هناك غيره فأنقذ الوليدة ولفها بسترته وأخذها لجهة غير معلومة بعد أن توفت المرأة بين يديه.
تلك الحادثة جعلته يتمرد على كل مايجري في ذلك المعتقل، وأحدث إنقلابا وضجة بين جميع المسؤولين، مما حدى بهم أن يلفقوا له تهمة ليسكتوه عن أفعالهم خوفا من أن يشي بهم، حتى وصل الأمر الى محاولة قتله بعد إيداعه السجن بتهم ملفقة.
تعرض كثيرا للتعذيب حتى أصبح بشكله الذي هو عليه الآن لقد جن الرجل مما أصابه،
وحين تيقنوا بأنه قد جن وفقد النطق، أخرجوه من سجنه وتخلصوا منه.
وهاهو يجوب مدينتنا طولا وعرضا لا أحد يعرف عنه شيئا إلا نحن الذين كنا أقرب الناس اليه لا أحد يهتم بالسؤال عن قصته ولانتحدث بها لأننا نخاف عليه من مصير مفجع قد يصيبه.
*طيب لم تخبرني بهذه الحكاية إذن؟
-إنحناءته حين يراك ودموعه التي إنسكبت أمامك .
بيني وبينكِ جنونه وخرسه هما اللذان أنقذاه وأخرجاه مما كان فيه وحفظا له حياته، حتى أننا كنا نعتقد أنه قد إفتعل الجنون والخرس ومارسهما علينا كي يحافظ على نفسه من أجل إبنته المسكينة التي ماتزال تعيش معه.
*إذن هو متزوج وله أسرة؟
-لم نعلم أنه قد تزوج يوما ولم يكن له أسرة غير تلك الفتاة التي تعيش معه وتعتني به وتناديه بأبي.
شكرت الرجل ورحلت وأنا تائهة، ولم أتمكن من العثور على سيارتي وأنا أتلاطم بزحمة أفكاري، بينما اشق زحمة السير تلوح في بالي فكرة واحدة ، أن الرجل مازال مجنونا ولم يعد يمارس حياته كما كان وكما ينبغي.